أصابتني الحيرة بعد أن استمعت إلى كل كلماته المتناقضة، فلقد جاء يتحدث معي بعد أن اتخذ قراره بكامل إرادته وعقد العزم على المُضي قُدمًا.
حسنا يبدو أنه أعلمني من باب العلم بالشيء، فما فائدة النقاش إن كنت قد اتخذت قرارك بمفردك؟
لقد قرَّر بكل سهولة أن يؤجل الدراسة مدة عام كامل؛ لأنه قرَّر أن يلتحق بأحد المولات الكبرى للعمل.
لم أعلم بشأن دوافعه غير أنه لم يعد يفكر سوى في جني الأموال، وكأنها أصبحت هدفه وشغله الشاغل ولا شيء غيرها، حتى لو اضطر لترك الدراسة في السنة النهائية وعدم التخرج مدة عام كامل.
أخبرته أنه إذا اتجه إلى مجال العمل فلن يعود مرة أخرى للدراسة، وسيدخل دائرة لا خروج منها وهي السعي للمال.
لم يعد يكترث لكلامي؛ فكل ما يهمه أنها فرصة العمر. حقيقة لا أرى أي فرصة في تعطيل التخرج من أجل حفنة من الأموال.
انزعجتُ من طريقة تفكيره، ولم يرد أن يوضح دوافعه، غير أني أبصرت فيه تلك الصورة المكررة التقليدية لجميع الحمقى من جنس الرجال الذين يلهثون وراء المال. غير أن أخي قرر بكامل إرادته أن يدخل تلك الدائرة مبكرًا.
هاتفتُ والدي فانزعج هو الآخر، ثم علمت أن سبب تلك القرارات المفاجئة هو زيارته الأخيرة لأحد الأقارب في العاصمة.
طالما عددتُ أخي قوي الشكيمة، ويصعب التأثير فيه، لكنه بدا لي طفلًا يركض وراء لعبة ما، غير عابئ بعواقب فعلته.
خرج للعب الكرة وانتهى النقاش الذي حُسمت نتيجته مبكرًا، دخلت غرفته عقب انصرافه؛ لأن هاتفه لم يتوقف عن الرنين منذ خروجه. انزعجت بشدة وقررت أن أضعه على الخاصية الصامتة؛ حتى يتسنى لي متابعة برنامجي المفضل.
وجدت سبعة عشر اتصالًا هاتفيًّا من شدوى، حقيقة لم يخبرني عنها؛ فحياته العاطفية دائمًا لا يتحدث عنها إلا إذا ألححت عليه، وعادة ما تأتي الإجابة بكلمة واحدة أو اثنتين.
قرَّرت أن أجيب على اتصال الآنسة شدوى، التي بادرتني بالسؤال عن هويتي، وعن سبب وصول هذا الهاتف ليدي.
لو كنت في مزاج أفضل كما في السابق لأخبرتها أنني خطيبته، لكن لم أشأ أن أمزح؛ فلقد بتُّ أكره المزاح.
أحسست بنبرة ارتياح عميق عقب علمها بأنني أخته الصغرى، سألتني عن مكانه فأعلمتها أنه خرج للعب الكرة. الآن عرفت سبب رغبته في تأجيل الدراسة. إنها الآنسة شدوى التي ستكون سببًا في ضياع مستقبل أخي بعد أن أوشك أن يتخرج.
لم أجد بُدًّا من أن أضايقها بعد أن تيقنت من فحوى كلامها أنها السبب في قراراته الأخيرة، حينها قررت أن أنتقم منها.
أنهيت المكالمة فجأة فعاودت الاتصال. تلكَّأت في الرد، ثم بعد الاتصال الرابع غيَّرت نبرة صوتي وأجبتها بأنني خطيبته. اندهشتْ للغاية، فأعلمتها أننا نستعد للزواج في أشهر قليلة، وأنني في البيت لأحدِّد بعض التصميمات. وتساءلتُ عما إذا كانت المتصلة منسقة حفل الزفاف أم مهندسة الديكور أم مسؤولة قوالب الحلوى؟
أنهت المكالمة دون إجابة، وعقب عودة أخي لم أشأ أن أُعلمه بالأمر.
وفي الأيام التي تلت تلك المكالمة لاحظت انزعاجه وحزنه، غير أن تنحيه عن قرار تأجيل الدراسة كان بمنزلة إنجاز لي ولأبي الذي ظل يشكرني مدة شهرين كاملين، ولولا أنني حطمت هاتفه لظل يشكرني مدة عام كامل.
عقب رؤية أخي في حفل التخرج تذكَّرت تلك المحادثة، فقلت له: أودُّ أن أعلمك بأمر ما. قال لي: لاحقًا. قلت: بل الآن.
أخبرته بما حدث في تلك الليلة بيني وبين شدوى. وحقيقةً بعد أن قصصت عليه ما حدث، تحوَّل حفل التخرج لمهزلة حقيقية؛ لأن أخي استمرَّ بالركض خلفي، وأخذ يرمي عليَّ كل ما استطاعت يده أن تصل إليه من قوالب حلوى وورود.
لم أفكِّر سوى أن أنجو بنفسي وروحي من هذا الثور الهائج، ولم ألاحظ أن الحضور يوثِّقون تلك اللحظة بهواتفهم الجوالة. غير أن الفيديو الذي شاهده ما يزيد عن مليون شخص أكَّد لي حقيقة واحدة؛ أن شدوى أيقنت أن أخي يحبها.
غير أني حتى بعد أن عاد أخي لها، وقضيت ما يزيد على عشرة أيام طريحة الفراش لأتعافى من الكدمات، أدركت أن مستقبل أخي يستحق ما فعلته وزيادة.
دمتم بكل ود.
أغسطس 30, 2023, 10:36 ص
بعد غيابك الطويل اذهلتيني بقصتك الرائعة حقا احسنتي انا انتظر جديدك بفارغ الصبر تحياتي ❤
سبتمبر 10, 2023, 6:37 ص
جزاك الله خيرا مبدعتنا بوماله أتشرف بمرورك الطيب 💞💞💞
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.