من أجلهم.
طالت ليالي السهر والأرق، لم تقر عيني ولم يرتح قلبي. فما أقسى على النفس من ألم يشعر به عزيز لديك فتتمنى لو أدركتك ما به من علة فصار صحيحًا معافى.
مرَّ من الوقت أسبوع على بدء تنفيذ خطة العلاج كما دبرتها أنا وأكرم ابني الأصغر. حينما شعر فجأة بارتفاع في درجة الحرارة مصحوبًا بأعراض مشابهة للوباء اللعين الذي ساد العالم كله في ذلك الوقت.
ارتعد جسدي وكدتُ أسقط صريعًا من هول الصدمة، لكنني كعادتي أتوجه ببصري للسماء، وأتنفس بعمق؛ لأستعيد قوتي، فأتمكن من المقاومة وإيجاد العلاج والحل الأمثل لأي مشكلة.
لم يشغل فكري سوى كيفية الوصول به إلى بر الأمان.
قال أكرم:
- لا بد أن تودعيني إحدى مستشفيات العزل ليكون الوضع آمنًا لكِ ولأخي الأكبر.
- قلت غاضبة: كيف لك أن تفكر بهذه الطريقة. فأنا لا يمكنني أن أتركك تبعد عن عيني هُنيهة من الوقت وسأتولى عنايتك ومتابعة علاجك بنفسي لحظة بلحظة.
اتفقت أنا وأكرم على وضع خطة جيدة تبدأ بتخصيص حجرة للعزل بالمنزل، تمكَّنت من الاتصال بأحد الأطباء المعالجين للمرض بالمستشفى ليصف لنا العلاجات اللازمة والفيتامينات التي أثبتت فاعليتها ونجاحها في التخلص من المرض، والمشروبات الساخنة واستعمال المطهرات والنظافة المستمرة.
وافقني الرأي؛ لأن خبراء العالم بأسره لم يكن قد توصل أحدهم إلى عقار يمكنه القضاء على المرض نهائيًّا. وأكرم يتمتع بجسم رياضي قوي البنية؛ فآمل من الله أن تكون استجابته للأدوية سريعة. سهرت الليالي يجافي النوم جفوني. أعود بذاكرتي لأيام صباي، وأتذكر حديثًا دار بيني وبين أمي منذ عشرين عامًا، حين قالت:
- أود أن تستجيبي لنصيحتي هذه المرة وتقبلي بالزواج من «حاتم».
- ولماذا أرى في حديثك كل هذا الحماس؟
- لأنه طبيب، وعلى قدر عالٍ من الخُلق، وهو حلم كثير من الفتيات، وهو يعلم أن لديك أبناءً ويقبل بذلك الأمر. وقال إنه سيرعاهم كما لو كانوا أبناءه، فلا يمكنني أن أتركك بعد وفاة زوجك، وحيدة في هذا العالم وما زلتِ في عمرالزهور. فلماذا لا تعطي نفسك الفرصة لحياة جديدة مع زوج آخر يعطيك ما افتقدتيه من عطف وحنان أعوامًا طويلة؟
- أمي؛ أنا لا أرغب بالزواج؛ وليست هذه المرة الأولى التي أصرِّح لكِ فيها بهذا الأمر.
- لكنك تعيشين في وحدتك منذ سبعة أعوام.
- هذا فقط ما فات من العمر، وسأهبهم كل ما تبقى منه وسأحيا من أجلهم.
- ولماذا تضعين نفسك في سجن الأعباء الثقيلة والمسؤولية دون قلب يؤنس وحدتك ويشفي آلامك؟
- أعلم يا أمي مدى خوفك علينا جميعًا. لكن ليس بإمكاني أن أقسم قلبي شطرين. فليكن لهم قلب وعقل كاملان دون أن يقاسمهم أحد. فالأمر قد حُسم يا أمي، فلن أعيش من أجل نفسي، وسأحيا حياتهم وأتنفس أنفاسهم متى حييت.
لم أشأ أن أُحزن أمي، لكنك حينما ترى قطعة من روحك، تخرج للنور، يرتبط كيانها بوجودك، تحيا في ظلك؛ فإنك لن تتوانى بأن تُفني روحك من أجل بريق أعينهم. وهم إلى ذلك جزء لا يتجزأ من «إبراهيم» زوجي وحبيب عمري.
ليس فقط في ملامح الوجه، بل إنني أراه يتجسد أمام عيني في كل حركه وإيماءة تصدر عنهم، أصواتهم، بنية أجسامهم، أسلوب حديثهم، أرى فيهم رقته، شفافيته، عذوبة أنفاسه، لم أشعر بالوحدة التي تراها والدتي. ولم أجد المسؤولية كابوسًا لا يمكن احتماله. فأنا أحيا معه وبه بأسلوب حياته، نصائحه وكيفية توجيه أبنائنا. وهل توجد حياة دونه!
لم يدع إبراهيم شيئًا دون ترتيب، حتى صغائر الأمور. فإن انتابني الخوف على أحدهم لعدم وجود الأب بينهم فقسوت أحيانًا؛ أعود فأتذكر حديثه وطريقته المثلى وحكمته لمعالجة الأمر. فحياتي معه -برغم قصر مدتها التي لم تتجاوز خمسة عشر عامًا- كانت هي العمر كله، السعادة التي قد يقضي غيرنا عمرًا طويلًا للبحث عنها ولا يحالفه الحظ ليجدها ويحياها.
كان يرغب بأن يرى «أكرم» مهندسًا حين يكبر، وقد نمَّيت فيه هذا الحماس فكان له ما أراد، لكني لم أُوفَّق أن أجعل من «أمجد» طبيبًا؛ فليس كل ما يتمناه المرء يدركه -كما قال الحكماء والفلاسفة قديمًا-.
تمر أوقاته في فرحة وبهجة، كان يراني أجمل النساء، فأراه أعظم الرجال. يعشق ابتسامتي، فلا يدع مجالًا لأن تختفي عن وجهي فيبعد عني كل الهموم والمشاق، فيزيد حبي له ويستقر عشقه بقلبي ووجداني. اليوم وقد بات بعيدًا عن ناظري لكنه يسكن جوف قلبي؛ يحتل كياني؛ يسري كالدماء بين منحنيات عروقي.
تُرى هل يمكنني أن أضحي بذكرى أيام ملأت كياني بالحياة من أجل زوج آخر! مجرد زوج مهما تعددت صفاته؛ فهل تنجب الحياة مرة أخرى «إبراهيم»! أسعد بأعوام تنقضي من عمري حتى يحين موعد اللقاء فأراه.
لم تبدُ عليها الدهشة حينما رفضت منصب الوزارة؛ فقد أصبحت على يقين بأنني لن أقدم على شيء يجعلني أبتعد بتفكيري عنهم أو يشغلني عن أحوالهم وتدبير أمورهم وحسن تربيتهم، وبالتعلق الشديد الذي تملَّك أمجد فصار لا يأمن إلا بوجودي.
وصرت أحصي ساعات العمل ودقائقه لأعود إليهم سريعًا، فلست أنا الأم التي يمكن أن تتخلى عن أبنائها أو تطلق العنان لعواطفها أو ممن يركض خلف أهوائه.
لم يحدث ذات يوم أن تصرفت بعصبية، ولم أكن سببًا في جرح أحدهم. حتى ذلك اليوم الذي فأجأتني فيه «غدير» صديقتي المقربة، بذاك الخطيب الذي يرغب بالزواج على عجل. فرأيتني أنصرف عنهم دون كلمة أو حوار. فقد دُهشت من جرأتها؛ فهي تعلم جيدًا رفضي القاطع للأمر.
لكن الفكرة ما زالت مسيطرة على المجتمع كله. فكيف تعيش الأرملة أو المطلقة دون رجل، أعني زوج جديد وشريك لحياتها. مهما تعددت أسبابي ودوافعي فلن يتقبل أحدهم الفكرة من أساسها، فلا وجود للمرأة دون زوج.
فكل منهن لا يحتل تفكيرها سوى البحث عن زوج بديل؛ هذا اعتقادهم ووجهة نظرهم الحاسمة. غير أن تلك الرؤيا ما زالت تتكرر كلما غفت عيني منذ بدأت أعراض المرض في الظهور على أكرم، لم يدعني إبراهيم ليلة دون أن يصطحبني معه، فيذهب بي بعيدًا، فهل كان يعلم أنه عندما يرحل عن دنياي، سيتركني أحيا بلا روح؟ وسيأخذ من عمري بريقه ونضارته؟
وبرغم سعادتي لرؤية زوجي كل ليلة بالمنام؛ لكنني كنت أخشى على ابني من ذلك الحلم، خاصة في وجود هذا الوباء الذي راح ضحيته آلاف البشر في العالم.
أشرق صباح جديد يزف إليَّ البشري. فقد تحسَّنت الحالة الصحية لأكرم، وزالت كثير من الأعراض الشديدة، ترك حجرة العزل سعيدًا بشفائه، جلس معنا على المائدة، عاد لمرحه وشقاوته المعتادة وجمال روحه. عاود اتصاله بأصدقائه فعادت إليه الحياة. فيض من السعادة يجتاح قلبي وعقلي، حينما عاد لأكرم شبابه وحيويته.
قال: لكني أراكِ بحالة غير طبيعية، وأخشى أن يكون أصابك المرض نفسه.
قلت: لا تفكِّر بالأمر؛ فأنا بخير.
صدق حدس أكرم؛ فقد هاجمني المرض نفسه. قد أكون لم أتخذ حذري ذات مرة أو أن مناعتي ومقاومتي للمرض أصبحت ضعيفة هزيلة مثل جسدي الذي سرت به أعراض الكِبر.
قلت وأنا أرى طيف «إبراهيم» يجول أمام عيني، فيحجب الرؤيا عمن سواه:
لكني أشعر بالراحة الآن؛ لقد أديت رسالتي نحوك وصرت رجلًا يمكنك الاعتناء بأخيك الأكبر فإنه كما تعلم «فاقد الأهلية».
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.