قصة "منن الرجال".. قصص واقعية

أطلَّ على إحداهن وهو يستعطفها بأن تعطيه 20 دينارًا ليعود بها إلى البيت! فردَّت عليه وبسرعة: اركب سوف أدفع عنك الأجرة، فقاطعها ليس الآن.

وبقي يردِّد قيمة المبلغ دون توقف إلى أن أخرجت محفظتها وناولته القطعة النقدية التي أذل نفسه من أجلها وغادر على عجل وبهدوء، وكأنه ليس ذلك الشخص الذي أحدث تلك الجلبة خاصة والذي يلحظ جسمه الهزيل يستغرب من نبرته الحادة والعالية والقوة التي تخرج من جوفه وكأنه تاجر يبيع في سوق شعبي!

حقيقة إصراره الشديد على أن يأخذ ما يريده من نقود يجعلك تعتقد أنه من أحد الأقرباء المتطفلين، لكن حين غادر المكان قالت لصديقتها أتلاحظين أنه لا يظهر إلا عند الحاجة! هنا فقط عُرِف سبب إصراره فهو يبدو أنه من المتعودين على مد يده لها ولأمثالها، فأصبحت لديه تلك الحصانة أو بمعنى آخر اكتسب حضوة جعلته يطلب ما يريد بكل وقاحة وجرأة وهو يعلم مسبقًا أنه لن يُرَدُّ خائبًا، وبالمقابل فهي سخية لأبعد الحدود وأي سخاء فهي تساهم بشكل فعَّال في استمرار هذه الظواهر المقيتة والتي نخرت المجتمع ولم تبقِ عليه. 

إن هذه الظواهر هي من جعلت مجتمعنا يضعف ويصبح آيلًا للسقوط، بل أضحى أوهن من بيت العنكبوت الذي يراه يحسبه عظيمًا ومتماسكًا لكن من يرميه بحجر صغير يهوي متساقطًا بخيوطه المتهالكة. 

حقيقة لطالما تناول المرء هذه الظاهرة الغريبة، التي لا تمت لمجتمعنا الإسلامي بصلة، لكن هذه المرة سنحاول أن نعالج الموضوع من زاوية مختلفة، زاوية نسلط فيها الضوء على الطرف الثاني في هذه المعادلة وهو ذلك أو تلك التي جعلت من سخائها هواية تداوم على القيام بها، فنراها تسحب ما بجعبتها من قطع نقدية توزعها يمينًا وشمالًا وهي فرحة بما تقوم به.

إن هذه التصرفات ومن وجهة نظري لهي من تساهم في تفاقم هذه الظاهرة وتجعلها تعمِّر طويلا، فهي تستقطب الطفيليين والاتكاليين والعياذ باللَّه، بالإضافة إلى أنّ التسوّل يُعدُّ من أسهل الطرق للحصول على المال فهو لا يحتاج إلى جهدٍ بدني، فيؤدي إلى ضياع وإهدار الطاقات، فتلحظ أن إصرار المتسول وثقته بنفسه تجعلك تعيد بعض الحسابات أو حتى تلك الآراء التي كان يتبناها المرء بخصوص التسول، فيرى أن ممتهن هذه الحرفة اكتسب الكثير من الجرأة، فأصبح ينظر في أعين الطرف الآخر وكله ثقة بأنه سينال ما يريده، أما الآخر فهو كالمُنَوِّمٌ المغناطيسي فبمجرد رؤيته لمتسول يسحب ما في حقيبته ويعطيه إياه وكأن الأمر أصبح من المسلَّمات. 

إننا لسنا هنا بصدد حث الناس على إمساك أيديهم عما يجودون به، لكننا بالمقابل نؤكِّد وبصفة قاطعة أن من ينظر للأمر على أنها "صدقة" فهو مخطئ لأن هذه الأخيرة أسسها وأركانها لا تبنى بهذه الطريقة، وديننا الحنيف قد وضع لها معايير بها يستطيع المرء أن يمارس الصدقة وهو مطمئن البال، حتى إنه يعطيها عن طيب خاطر وليس مثلما يحدث الآن من تحرشات يقوم بها المتسول للطرف الآخر ليعطيه ما يريد، وأقصد بذلك تلك الطريقة التي يقتحم بها المتسول خصوصية الناس في الأماكن العامة وإصراره على أخذ ما يريد. 

إن ديننا السمح لم يحرم التسول من أجل التحريم فقط، بل رأى مدى الضرر الذي يلحق بالمجتمع من وراء هذه التصرفات التي تؤدي إلى الاتِّكالية والخنوع وهدر كرامة الإنسان، وهي دليل على عدم ثقة المرء بالواحد الأحد الرزاق، بالإضافة إلى أن المتسول يكسب مالًا دون تعب ولا جهد، وهذا ما يقودنا إلى أخطر سمة تصبح لصيقة بالمتسول وهي نبذه للعمل وكرهه له.

في الواقع، إننا نرى أن المتسول يصبح عازفًا عن السعي والجهد، حيث نرى العديد من الأشخاص والأسر تحديدًا من تمارس هذه المهنة أبًا عن جد للأسف، فنرى الواحد منهم يسكن بيتا فخمًا أو يركب سيارة لم يساهم فيها ولو بدينار من عرق جبينه، وهو يتبختر متناسيًا أن والده أو والدته هي من كانت تحني رأسها وتمد يدها للمارة من أجل بضعة دنانير. 

إن هذه الأمور لهي تُوَرَّثُ أبًا عن جد تمامًا مثل الأمراض الوراثية التي تصيب الأبناء أو الحفدة فقط لأن آباءهم يحملونها؛ لأن المتسول الذي يشترط مبلغًا بعينه لهو عالة على المجتمع ولا يجب مجاراته فهو مع الوقت سيصبح آفة من آفات المجتمع، ومثل تلك السخية التي تفتح كيس نقودها بمجرد رؤيتها لأحدهم يمد يده هي من صنعت هذه النماذج البشرية وجعلتها تتكاثر كالفطريات

وكثيرًا ما نشاهد أن المتسول الذي يقف بإشارات المرور والطرقات لا يعجبه ما يعطيه المارة من أمامه، فنراه يلقي بتلك النقود أو يعيدها لهم. 

وعلى العكس من ذلك فإن هناك الكثير من المحتاجين من يمكثون في بيوتهم وهم في أشد الحاجة للصدقة ولكن العفاف يمنعهم من ذلك. 

يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في بيتين من الشعر: 

لَنَقلُ الصَخرِ مِن قُلَلِ الجِبالِ

أَحَبُّ إِلَيَّ مِن مِنَنِ الرِجالِ

وبالرغم من هذه الكلمات التي خُطَت حول هذه الظواهر المؤسفة فإن السؤال الذي لا يغادر خواطرنا ودائمًا يفرض نفسه كلما صادفتنا هذه المشاهد هو:

 لماذا المتسول دون التاء المربوطة "الرجل" لا يمد يده للرجال ولا يقرب منهم، وبالمقابل نراه يُحْسِنُ جيدًا اختيار أهدافه سؤال يبقى مطروحًا.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

هؤلاء تجار فقط ، والمحتاج الحقيقي لا يتسول فهو صفته التعفف كما جاء في القرآن الكريم.
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

وأي تجار يا صديقتي !! هم يُدركون جيدًا ما يفعلون،وما يصبون إليه من إستثارة الناس وإفراغ جيوبهم.لقد جعلوا الفرد يحسب ألف حساب حين يريد أن يُعطي من جيبه،مع أن الصدقة هي روح ديننا الحنيف.
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة