قبل سنين عدة، شددتُ أحزمتي للسفر إلى منزل الجد والجدة، كان الطريق طويلاً والشمس حارقة، وصلتُ وقت صلاة العِشاء وكان الليل موحشًا متخمًا بالسواد إلا بضعة قناديل تتوهج خلف نوافذ تلك المنازل القديمة "نوارات" مصابيح تشتعل بالجاز.
وصلتُ لذاك البيت والإرهاق يتقاسمني، استقبلتني جدتي، وما أجمل استقبال الجدات، وتلاها جدي بحفاوة ضمني إليه، وقال كأنك والدك وهو بعمرك.
دخلنا ذاك المنزل المتواضع الذي يتربع على عرش جبل شاهق، مررت للوضوء ومن ثم الصلاة، أتممتُ صلاتي فنادت تلك الجنة "جدتي" كي أتناول العشاء، وكان خبزًا مملوءًا بالحُب ولبنًا لا أظن أني سأنسى مذاقه.
تبادلنا الحديث عن أحوالنا التي امتلأت بجشع الحداثة والصعود إلى الأعلى، وعن أحوالهم التي افتقدناها في دوامة التسابق للأفضلية، فأحوالهم بسيطة جدًا تطبيقًا لقول الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام "من بات معافى في جسده، ولديه قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بما فيها" صدق رسول الله صلى عليه وسلم.
بدأت جدتي تغمض عينيها تارة وتفتحها تارة، وبدأ الخمول يسيطر على جدي أيضًا، قُلت لهُم اذهبوا للنوم فوقت نومكم قد حان، ذهب الجد ثم تبعت بعده الجدة بعد أن أعطتني جرة ماء للشُرب.
أخذتُ نفسي متحاملاً وبضوء هاتفي صعدتُ لسطح المنزل، السماء مُتشحة بالسواد إلا بضعة نجوم بعيدة، رأيتُ نجمًا يسقط خلف ذاك الجبل البعيد، أظنهُ شهاب يلحق شيطان، تسلل البرد إلى جسدي.
نزلتُ بهدوء إلى ذاك المكان المُخصص لي، ارتميتُ على ذاك الفِراش المُتهالك، هاتفي يلفظ أنفاسه، المصباح بدأ في التوهج أكثر، خِفت ألا ينفجر فأطفأته، ظلمة حالِكة، صوت دحرجة أحجار، تقافزت قطرات الخوف في أوردتي، صمت يُخيم على المكان، حتى صوت شخير الجد انقطع، برهة من الوقت، سقط شيء ما تلاه ضحكة مُرعبة..
أخذتُ أتكور على نفسي، ما هذا الشيء، لم أكمل التفكير حتى انفتحت نوافذ غرفتي، تجمدت كُل أطرافي، وتوقف قلبي، وشاب شعري، صوت رياح تتبادل إغلاق وفتح النوافذ والأبواب..
حاولت الصُراخ لم أستطع أن أفتح فمي، مددتُ يدي لتلك الجرة، لم أجد الماء، فقد كانت مملوءة بالتُراب، صمتٌ مُدقع، لا شيء يوحي بأنه يوجد أحدًا..
تمالكتُ نفسي وذهبتُ لأنظر إلى غرفة جدي، الباب مفتوح لم يُغلق، بخوفٍ نظرت إلى الداخل، لم أجد أحدًا، أين ذهبت تِلك الجدة، وأين هو الجد، لا أحد.. وتلك الغُرفة لم يسكنها أحدًا، فالتُراب يتناثر في كُل اتجاه..
تلاشت أفكاري وأُصبت بشلل تام، لم أتحرك، شيء يُربت على كتفي، لم ألتفت، ولكن ذاك الشيء نطق قائلًا: متى ستعود إلى رُشدك يا ابني،
أبي.. أحسستُ أن الله أرسلهُ ليُنقذني، أكمل كلامهُ، متى ستترك تعلقك بمن ذهبوا منذ زمن بعيد، أبي ما زال حيًّا وجدتي ما زالت كما هيا حتى إنها أعطتني خبزًا وماء!
ولكِن لماذا تحول الماء إلى تراب؟ ابني لقد كُنت ضيفًا للعالم الآخر، وضيافتهم لا يقبلها إلا مجنون أو مُصاب بمس، تعال لنخرج من هذا المنزل وهذه ستكون آخر مرة آتي لإخراجك، ودَّعتُ تِلك القرية ولم أودع جدتي وجدي، ربما سأعود ذات يوم، ربما.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.