روى قطرُب بن حائم لمَّا غُمَّ الهلالُ، وزالت الظلالُ، وابتعد الضلالُ، ذهب بالناس في الآفاق الجدالُ، وكثُر على العلماء السؤالُ، وغاب عن الدنيا بِلالٌ، وبعُد عن الكون منالٌ، وارتجَّت الأدلة، ولم تكن في البراهين الكثرة والقلَّة، ولم تتزيَّن بالزينة الشِمِلَّة..
فطارت في المآذن الأقوالُ، ولم تكن تتضح للناس الأمثالُ، وجاء رجل إلى الناس بالأحاجي، والليل البهيمُ الساجي، ولم يزل في الأجواء قتام، يغطي الرؤية في الوقت الداجي، ولم ير الناس إلا ما بقي من شعبان؛ إذ لم يلوِّح لهم هلال رمضان، فلما اشتدَّ الشوقُ، والتهب إلى الشهر الفضيل التَوقُ، وبحثتِ الأنظارُ عن باكورة الهلال، وعن صدق المقال، لم يزل القلب في سجن الاشتياق، عازما على أخذ الميثاق، في كل الآفاق، وصار الناس يرفعون الرؤوس إلى السماء، ولم تبخل السماء بغزارة الماء، ولكن ظمأ الشوق ملتهب، وأُوامَ الأمل متشعب، فاشتعل لهب الانتظار، ولم يزل النظرُ يذهب بالأبصار، والقلب معلَّق بما يوقد حبَّه، والظمأ في وهج ما يسلك دربه.
فقام شيخ بين الجموع، يعظ الناس بإسالة الدموع، والناس يتوبون من دون تأجيل، والقلب نادم من دون تخييل، والإخلاص رابض في السويداء بعد تسهيل، فلما استمع الناس إلى مواعظه، ارتجفت قلوبهم بعد تهليل، فلما أهلَّ الناس باسم الغفار، أفشوا ما لديهم من الأسرار، ولما تيقنوا بالغفران، حدَّثوا النفس بالإحسان، فلما طابت النفوسُ، وتبينت الدروسُ، قام الشيخ الكبير ينشدهم ارتجالا:
شفى رمضانُ أمراضَ انتظارِ فلا الأضرارُ تفتكُ في البراري
بقينا وانتظارات البــــــــــرايا تقودُ الشوقَ للشيء المُـــــواري
وما زلنا نشوقُ إليه حـــــــتى وجدنا أننا أهل اضطـــــــــــرار
فإن بقيَ اشتياقُ القلبِ يــــذكو فإن لهيبَه من غير نــــــــــــــــارِ
وما زلنا ننادي الشوقَ حــــتى رأينا الشوقَ ركْبا في الجِـــــــوار
فيا رمضانُ في الأشواق كـــنا وإن الشوق في الأعماقِ جــــاري
فلما وصل إلى هذا البيت، أصبح في القرى والمدنِ من أهل الصِّيتِ، فعرفه الناس في الدنيا، وهو في المشاعر يحيا، والناس يحاولون الاتصال به، ويفكرون في قربه. فلما دُعِيَ يوما للإلقاء، ألقى خطبة منقذة من البلاء والشقاء، فقال: "لقد صام الناس من قبلُ في الاختلاف، ولكن اليوم للأقوال كثرة الأصناف، فمن هذه الأقوال ما أثار الفوضى، ومنها ما لم يوفَّق للرضا، ولما وهِتِ الأفواهُ، وأرشد بعضًا الإلهُ، ففكروا في أمرهم للمِّ البَدَدِ، لا لعدِّ العدَدِ، فلما تبين للناس من الحق ما يحتاجون، وفي الحقائق يموجون، عادت للإسلام من قوَّةٌ، وانسدَّت هُوَّةٌ، فلم تكن لأقوال غير المسلمين قيمة، ولم تكن هناك لتصديق هذه الأقوال دِيمةٌ، شمَّر المسلمون عن سواعدِهم، وتمسكوا بقواعدِهم، لم يستطع أحدٌ اتهامَ أحدٍ، ولم تتعذر رؤية الهلال في بلدٍ، فعاد المسلمون في أُلْفَةٍ ولُحْمَةٍ وفهم، فقَوُا فلم تعدَّد حُجَجُهم، وثبتوا على هم عليه، وزداد لهجُهم، ولما انسدَّتْ ثغراتُ العدوِّ، أصبح المسلمون في السموِّ.
نسلِّمُ حكمَ أيامٍ طـــــــــــــوالٍ لربِّ الخلقِ خلَّاق الـــجواريِ
وما دارتْ نجـــومٌ في عُلاها بعِلْمِ عِبادكَ الجهلاء بـــــــاري
أتى رمضانُ حين يريد حتى مضى شعْبانُ من دون الحصارِ
فليس يصرِّف الجهلاءُ شيئـا من الأفلاكِ في الجوِّ المُنـــــــارِ
فلما سمع القوم بهذه الأبيات، قالوا: الله أكبر بإخلاص النيات، فاستنشدوا الشيخ الطاعنَ في السنِّ، فأتاهم بما هو أعذب في المعنى والوزْنِ:
فما بال الذي في الوهمِ يحيا يظنُّ بأنه بين الكِـــــــــــبار
ولكنْ ليس يعرِف سيرَ نجْمٍ فأصبح بعد ذلك في الصِغارِ
إذا ما يدّعي قومٌ علــــــومًا فعلمُ الله ليس من الــــصَغَار
إذا شاء الإلهُ أضاف يومًـــا على شعبانَ بعْدًا عن شِجــار
وإن هوَ ناقصٌ رمضانَ، هذا إرادةُ مَنْ يدبِّر مَنْ يُبـــــارِي
وإنْ هو زائدٌ يوما علـــــــيه فقُدْرَتُ خلَتْ من كلِّ عـــــارِ
ولكنَّ الذي يرجــــــــــوه مِنَّا خضوعٌ عباده بعد ائتمـــــارِ
قال قطرب: فلما سكنت ريح الإنشاد، وتقلى الناس الأبيات بين النقد والإيراد، أُلقِمَ الناسُ الحجَرَ، وكتموا بعد ذلك الضجَرَ، فارتضوا ولم يجزعوا، والجدوالَ قد نزعوا، وإلى ربهم قد فزِعوا، وعلى العبادة قد توزَّعوا، فظلوا في الانتظار، ورغبوا في تطهير الأوضار، وتلاقوا الأخبار في القرى والأمصار، فلم يركبوا العنادَ، فنالوا المرادَ. واستسلموا لأمر ربهم العزيز، وانقادوا لأوامره، وأحسنوا في الشهر الفضيل الجِهادَ، كما طهروا البلادَ، وأكرموا العبادَ، ورفعوا بالطاعة العِمادَ.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.