تشرين البارد/ نوفمبر سنة 1992
الخامسة والنصف بعد منتصف العصر
سيارة أجرة سخيفة تلهث على الطريق بغية الوصول إلى محطة السكة الحديد، أجلسُ فيها وحيدةً على المقعد الخلفي، أتأمل بغباء، سائقَها الذي يحثّها على الإسراع وهي ترفض مغازلته لها بكلّ تبجّح، يمسك بيده اليسرى سيجارةً ينفثُ دخانها في كل أرجاء السيارة متملّقًا، وبيده الأخرى فنجان قهوة بدت فوق حافته علامات الاشمئزاز من قذارة فمه الذي يشبه البالوعة، لا أعلم أين هي اليدُ التي تمسكُ بالمقود، ربما توجد يدٌ ثالثة خفيةّ، أو ربما أنني أتخيلُ الأمر على هامشِ السّرد.
نصفُ ساعةٍ من الملل، وصلتُ بعدها إلى محطّة السكّة الحديد.. محطةٌ قديمة، تنظر إلى من يزورها بكل تكبّر، وكأنها تقول لهم، أنا الشاهد الوحيد على هذه المدينة، والأجدر بكم أن تنحنوا أمام جدراني المتهالكة، نزلتُ من السيارة بعد أن انهلتُ على سائقها بعددٍ لا بأس بهِ من الشّتائمِ وعلى مختلف أنواعها بنظرةٍ من عينيّ التي تبغضُ كلّ سائقي الأجرة أمثاله.
اقتربتُ من باب المحطة، لأجد في استقبالي روتينها المعتاد، أحدهم يعرضُ عليّ حمل حقيبتي، وآخر يأمرني بقطع تذكرة الدخول، وثالثٌ ينظر فقط، وكأنّه مراقب المحطة، تبًّا لكم ولروتينكم السخيف!
ذهبتُ إلى صالةِ الانصهار، لعلّي أحظى بالقليل من الدّفءِ في فرنِ الزّحام الأحمقِ هذا..
ألقيتُ بِثِقَلي الغبيّ فوق كرسيٍّ نخَر أجزاءَه السّوسُ من شدّةِ عراقته، مرّ أمامي طيفُ السائقِ الذي أوصلني قبل قليل وهو يدخن سيجارته ويشرب القهوة، تناولتُ القهوة من يدهِ بعدَ أن صفعتهُ على وجههِ واحتسيتها بنَهَم، مددتُ يدي الأخرى لأصفعهُ مرةً أخرى وآخذَ منه سيجارتهُ ثم تراجعت بعد أن تذكرتُ أنني أنثى، تبًّا أخرى للتقاليد البغيضة، هل السجائر حكرٌ على الرجالِ فقط؟ لا يهم!
عدتُ لأتفحّصَ وجوهَ المنصهرينَ حولي كسرًا للملل، لفت انتباهي رجلٌ طاعنٌ في السن، يجلسُ على مقعدٍ إلى جانبٍ من جوانبي الأربعة، الوقار واضح فوق محيّاه المجعّد، والهيبةُ التي اعتلت رأسه بدت وكأنها ترفض كبر السن الذي لأجلهِ قد احدودب ظهرهُ وانفرجت قدماه.
اقتربتُ بنظري منه لأجدهُ متّكئًا بثقلهِ فوق عكازهِ الذي يسندُ يديهِ خشيةَ أن ينكبّ على وجهه، يراقبُ بعينيهِ الناس بكل حزنٍ وسخرية.. تناقضٌ قاتل، وكأنه ينبئهم بنهايتهم التي لن تكون أجمل من نهايته.
قتلني الفضول لأعرف ما قصة ذلك الظرف الذي كان ينظر إليه كل لحظة ويُقبّلهُ ثم يعيدهُ إلى صدره، لِمَ كل هذا الشوق؟ نظرَ إليّ على حين غّرة، ليخبرني بعينيه أنه كان يشعر بمراقبتي له طوال الوقت، خجلتُ وابتَسمْ، تأمّلني كثيرًا، ثمّ نهضَ وركبَ القطار السابق لقطاري ورحَل، رحلَ هكذا وهو يبتسمُ لي، رحل وكأنه طيفٌ جاء من عالم الأرواح فقط ليتأملني ويبتسم، وها هو يعود إلى مقبرته.
نظرتُ إلى مكانِ جلوسِه لأكتشفَ أنه قد ترك معشوقهُ الذي كان يُقبّلهُ خلفه، أيها الأحمق، منذ ساعة من الزمن وأنتَ تنهالُ على خدّهِ بالقُبَل لتتركهُ وتمضي هكذا؟ تناولتُ الظّرف وفتحتُه كي أُشبعَ فضولي، وجدتهُ مملوءًا بالصور..
صورٌ كثيرة لأشخاصٍ كُثر، يتوسّطهم بطلُ رحلتي الأحدَب، بحثتُ بين الصورِ لعلّي أجدُ عنوانًا لهذا الشبح، فلربما استطعتُ أن أصلَ إليهِ لأُعيدَ لهُ سيرتهُ أو صورتهُ الذاتيّة هذه، استوقفتني صورةٌ شنَّتْ جيوشُ القشعريرةِ حربَها على مؤخّرةِ عنقي إِثْرَ رؤيتي لها، إنها صورةٌ لي، أنا التي في الصورة، كدتُ أفقد الوعي من شدة الرعب، قلبتُ الصورةَ لأجدَ مكتوبًا على ظهرها:
"إلى من يجد هذا الظرف، أرجو تسليمهُ إلى صاحبةِ الصورة، حفيدتي المُتوفّاة عام 1948!".
أبريل 5, 2023, 2:21 ص
أكثر من رائعة لك احترامي👌👌👍👍👍
أبريل 5, 2023, 10:22 م
أشكركِ على مروركِ الجميل..
تحيتي لكِ
✌🏻🇵🇸✌🏻
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.