قصة "معاناة ابن متبنى"ج1

قصتنا اليوم مستوحاة من واقعنا المَعِيش، تدور أحداثها عن حياة شخصٍ نشأ في بيئة فقيرة اقتصاديًّا، وعانى كثيرًا في الحياة، إليك تفاصيلها...

كانت هنالك أسرة تعيش في إحدى المناطق الريفية، مكوَّنة من أم طاعنة في السن مُتوفَّى عنها زوجها، ولها اثنان من الأبناء الذكور، وثلاثة من البنات. كلٌّ من هؤلاء قد تزوَّج وأنجب ما عدا أحد الأبناء ويدعى الهادي، وهو من تدور قصتنا حول حياته.

كان بيت الهادي بيتًا مُستأجَرًا، يسكنه الهادي وزوجته التي تدعى فاطمة، في حياة ليست بالهادئة. فقد كان الهادي سِكِّيرًا، يمضي نهاره في العمل حاملًا الأثقال على ظهره مثل الجِوالات وحديد التسليح وغيره، فيعمل عَتَّالًا. حتى إذا جاء الليل، أخذ ما جنى من مال إلى بيت صاحبة الخمر (امرأة تبيع الخمور) فيهدر ماله في الشرب غير آبهٍ بزوجته التي تعاني من الفقر وشح العيش.

فإذا شاء الله له أن يقع بين أيدي الشرطة، تذهب زوجته لتدفع ثمن كفالته وتُخرجه من السجن، تجمع المال بالتسول لتُخرجه، حتى إذا خرج عاد لفعلته، وهكذا تدور عجلة الحياة لديهم.

تغيَّرت حياتهم عندما فكرت زوجته فاطمة في أن تتبنى طفلًا، بما أنها لم تنجب، أرادت طفلًا يملأ حياتها ويخفف معاناتها، يزيح وحدتها، ويؤنسها.

عرضت فاطمة على زوجها الفكرة، فلم يرفض طلبها، وذهبا معًا إلى دار الرعاية التي كانت تضج بالأطفال فاقدي السند، وتبدأ أعمارهم من ساعات إلى سنوات.

تجول الزوجان في غرف وممرات الدار حتى وجدت فاطمة ضالتها، رأت طفلًا متلألئ الوجه مضيئًا بابتسامة جذابة لم تستطع مقاومتها، فجرت نحوه وحملته بين ذراعيها وهي تصيح: "هذا طفلي، هذا طفلي"، وتبتسم بحب وانشراح صدرٍ وبهجة.

ذهبت هي وزوجها وبصحبتهما هذا الطفل إلى مكتب إدارة الدار لإكمال إجراءات تبنِّيه، وبعد ذلك خرجا من الدار وفاطمة تتهلل بشرًا، أما الهادي فقد كان هادئًا. يا تُرَى، هل يفكر في تغيير حياته وتركه للشرب ليوفر لقمة العيش لهذا الطفل، أم ماذا يدور في عقله؟ لم يتفوه بكلمة حتى وصلا إلى منزلهما.

كان عمر الطفل وقتها سنة وثمانية أشهر، وعاش الطفل معهما حياة يملؤها كدر العيش ولا مبالاة أبيه الهادي.

قررت فاطمة العمل لتوفر لطفلها لقمة العيش، فعملت عاملة نظافة بإحدى المدارس مقابل أجرٍ زهيد بالكاد يغطي حاجة الطفل.

مضت الأيام مسرعةً، وكبر الطفل الذي سمَّياه جابر، سمَّته فاطمة "جابر" ليكون جابرًا لانكساراتها، مزيحًا لهمومها.

مرت الأيام والسنين وجابر يزداد تعلقًا بأبيه، ويرغب دائمًا في أن يكون بجانبه ويصطحبه أينما ذهب. ولكن فاطمة كانت تخشى عليه من اصطحابه معه إلى بيوت الخمور، فكانت شديدة الانتباه حرصًا ألا يحدث ذلك.

وكان إذا أُدخل الهادي السجن يبكي جابر بكاءً شديدًا، حتى تذهب فاطمة وتخرجه له، وكانت حياتهم على هذا الحال دومًا.

كبر جابر ودخل المدرسة، وكان طفلًا نجيبًا ذكيًا سريع الفهم، يدرك المقصود من الكلام بسهولة.

كانت فاطمة الأم الحنون، ترى فيه أحلامها التي لم تستطع تحقيقها بنفسها، وتعمل جاهدة على توفير كافة احتياجاته لتحقيق أحلامهما.

في يومٍ من الأيام، جلس الطفل جابر ذو العشرة أعوام بجانب والده الذي جاء منهكًا من العمل ليأخذ قسطًا من الراحة، ثم يقوم ليذهب إلى ملذاته.

جلس جابر وبدأ الحديث مع والده قائلًا: "يا أبي، لماذا لا تترك شرب الخمور؟ فإنها ضارة لصحتك، ومهلكة لجسدك النحيل، وهي إلى ذلك مستهلكة لمالك الذي تجنيه بالتعب والمشقة. أليس الأفضل إنفاقه لتحسين مستوى حياتنا؟

كذلك، بالنسبة لحياتنا العامة، فقد أكل الناس لحومنا بسبب سوء أفعالك يا أبي. عندما تسكر تعود مترنحًا تكاد تسقط على الأرض، وتتلفظ بالبذاءة على أمي التي لا ذنب لها بأعلى صوتك، وتضربها أحيانًا وهي صامتة صامدة لما تفعل بها. وتقول إنه ليس بوعيك".

ألا تخجل يا أبي من أفعالك وأقوالك؟

أخذ الابن يواصل تأنيب أبيه قائلًا: "كذلك أنا عندما أخرج إلى الشارع لألعب مع الأطفال يعيرونني بأفعالك المشينة".

هنا ظهر الغضب على وجه الأب وبدأ بالرد مقاطعًا جابر وبصوت مرتفع جدًّا: "أنا لن أترك شرب الخمر إلى آخر يوم في حياتي. أمك لم أُجبرها على العيش معي، فقد خيّروها واختارت". (اختارت فاطمة الزواج به لأنها كانت قد تقدمت في العمر ولم تتزوج، ثم إنها كانت تعيش مع أختها وزوج أختها وأبنائهم، وهم لا يطيقون وجودها معهم، فكانت مضطرة للقبول بالزواج من الهادي).
"أما أنت، فأنا لم أنجبك، بل تبنَّتك أمك من دار الأيتام، أي أنك لست ابني ولست مجبورًا على العيش معي وتحمل حياتي التي تبدو لكما عقيمة".

رد الطفل ذو العشر سنوات ردًّا من عمرٍ يفوق العشرين، إذ قال: "يا أبي، أنت لم تنجبني ولكنك ربيتني وعلّمتني وفعلت ما لم يفعله من أنجباني وألقيا بي في دار الأيتام حتى رحمني الله بكما. أنا لم أستعر يومًا من كوني متبنى، ولم أكن آبِهًا يومًا بما يقوله الناس عني بهذا الخصوص، لأني أعلم يقينًا أنه ليس لي يدٌ فيما جنى والدَيَّ اللذين أنجباني. ولكني أتألم جدًا عندما يتحدثون عنك بالسوء، ولا أرضى بذلك حتى إنني فكرت يومًا بالبقاء في المنزل وعدم الخروج منه أبدًا، حتى لا أسمع كلمة 'يا ابن السُكرجي' (كثير السُكر أي الشرب للخمر). فأنت أبي وإن لم تكن والدي".

هنا تحرَّكت مشاعر الأب وهو متفاجئ من رد ابنه الذي لم يتجاوز العشر سنوات، فطأطأ رأسه وهو يبتلع ريقه قائلًا لابنه: "أنا حاولت يا بني ترك هذا، لكن لم أستطع، فهو بالنسبة لي مخدرٌ أستطيع به النوم من كثرة الهموم التي أثقلت رأسي، أنت وأمك همي الوحيد في هذه الحياة، وأتمنى أن أراكما سعيدين، ولكن ليس بيدي حيلة، وكلما كبرتَ أنت ازددتُ أنا شربًا للخمر؛ لأن همي يزداد بأني لا أملك لك شيئًا".

فرد الابن لأبيه بكل تأدبٍ واحترام قائلًا: "لا يا أبي، لا تحمل همًا. فكل إنسان خلقه الله قد كتب له رزقه وأجله وكل تفاصيل حياته. يا أبي، ليس عليك سوى السعي.. يا أبي، كن قوي الصلة بالله حتى ينجلي همك. فأنا وأمي نعيش حياتنا ونحن راضيان بما كتبه الله لنا، فارضَ أنت حتى يرضى الله عنك، فنعيش معًا حياةً طبيعية يملؤها الحب والمودة والأمان".

وقعت كلمات هذا الصغير، الذي عرف الحياة مبكرًا بسبب ما عاشه وبوجود أمه بجانبه، موقعًا ترك أثرًا في نفس الأب.

تنهد الأب، ثم سكت برهةً، ثم رد قائلًا: "كلماتك هذه يا بني كنت أحتاج سماعها منذ زمن، كانت أمك دائمًا ما تقول لي هذه الكلمات، ولكني كنت أقاطعها وأخرج من المنزل ولا أعود إلا مترنحًا كما قلت.

لكني لم أكن أتوقع أن أسمعها منك وأنت في هذا السن يا بني، وبهذه الطريقة المرتبة المهذبة، ولكني أعدك يا بني أن أجاهد نفسي، وأن أترك شرب الخمر وأقضي وقتي معكما، فإني قد اعترفت فيما مضى وقصرت، لقد حان الوقت لأعوضكما عن ذلك، ولكني لا أعدك أن يحدث ذلك بين يوم وليلة، فالأمر يحتاج إلى وقت حتى يتحقق. أريد منكما الصبر على توبتي كما صبرتما على معصيتي".

فقال جابر: "ونحن سنكون لك نعم السند، ونقدم لك كل الدعم يا أبي حتى نراك أبًا نفتخر به".

مرت الأيام والهادي يحاول تقليل الشرب يومًا بعد يوم، كان يتضجر في كثيرٍ من الأحيان، ولكن جابر وفاطمة صامدان، يقدمان دعمهما بكل ما يملكان من قوة حتى...

يتبع...

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

محتوى جميل جدا"
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

محتوي جميل موفقه يارب
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة