قصة "معاناة ابن مُتَبَنَّى" ج2

انتهى الهادي عن الشرب، وهداه الله لترك معصيته، فتاب توبة نصوحًا.

كانت فاطمة وجابر سعيدين أيَّما سعادة بتوبة الهادي، وبدأت حياتهما تبتسم، وعاشا أيامًا وليالي براحة وهناء. وواصل جابر تعليمه، وقد بلغ الثامنة عشرة من عمره، وهو على مشارف الجامعة ويستعد للامتحانات المؤهلة لدخول الجامعة.

وفي ذات يوم عاد الهادي من العمل تبدو عليه ملامح الإعياء والإرهاق، فذهب إلى فِراشه دون أن يحادث أحدًا، فسألته فاطمة: ما بك؟

فأجابها: متعب قليلًا، اتركيني لأرتاح.

ذهبت فاطمة وأعدت له كوبًا من العصير، ووضعته بجانبه وذهبت. ثم عادت بعد مدة من الزمن فوجدت الكوب بمكانه لم يلمسه، فحاولت إيقاظه فاستيقظ، وقال لها: إني أشعر بإرهاقٍ شديد، وسخونة على جسمي.

فقالت له: هيا نذهب إلى المشفى، فرفض وقال لها: سوف أرتاح وتزول العلة.

لكنه كان يومًا بعد يوم يزيد تعبه وإرهاقه، حتى ظهر اصفرار على جسمه وبياض في عينيه، وثقلت حركته، وأصبح لا يستطيع أن يحمل نفسه، فأخذته فاطمة وجابر إلى المشفى، فكان قرار الطبيب صادمًا، حيث قال لهما إنه يعاني تلفًا بالكبد سببه شرب الخمور، وأعطاهم روشتة بها مجموعة من العلاجات التي قد تساعده في تحسين حالته الصحية، ومرَّت الأيام وهو على هذه الحالة.

ذات صباح تأخر الهادي في الاستيقاظ من النوم، فجاءته فاطمة تحاول إيقاظه، لكنه قد نام نومًا لا استيقاظ بعده، فصرخت فاطمة صرخة جعلت الجيران يهرعون لنجدتها.

وهرول جابر مسرعًا نحو أمه يسألها بقلق: ما الذي حدث؟! ففاجأته أن أباه قد فارق الحياة.

صُدم جابر، وأحس لوهلة أن الدنيا قد بدأت تظلم في عينيه مرةً أخرى، وانهار بالبكاء، وضمته فاطمة وهي تصيح وتبكي بحرقةٍ وألم.

مرت الأيام وجاءت الامتحانات، وجابر يحاول أن يستجمع نفسه، وأمه تواسيه وتحاول جبر كسره، حتى يتجاوز هذه المرحلة. وبالرغم من الظروف التي مر بها جابر لكنه أحرز نتيجة مميزة، وفرحت أمه بنجاحه، وكأن أحلامها لاحت في الأفق.

قررا أن يدرس جابر الهندسة، فقدَّم لكليات الهندسة وقُبل في إحداهن، وبدأ دراسته، وكان من الطلاب المتفوقين. وعندما كان بالسنة الأخيرة للجامعة، مرضت أمه مرضًا شديدًا ولازمت الفراش مدة من الزمن، ثم شُيعت لمثواها الأخير.

عاد الحزن يخيم على جابر، ويطوق رقبته ويسيطر عليه، وأصبح بعد فراق أبويه وحيدًا.

عاش مدة طويلة يعاني من الوحدة والحزن، وأخذ شهادته الجامعية دون أن يحتفل مع زملائه بتخرجه، وكان يحب دائمًا أن يكون في معزل عن الناس، تؤنسه ذكريات أبويه، فتارةً يضحك وتارةً أخرى يبكي بكاءً شديدًا دون أن يراه أحد، ولم يجد من يواسيه. 

كانت هناك فتاة تدعى نجلاء، كانت من الطلاب النجباء في جامعة جابر، وقد أخذت بحظٍّ وافر من الجمال والتهذيب. كانت تراقب جابر من بعيد، وتحاول أن تقف بجانبه، ولكنه كان يفضل أن يظل وحيدًا بين جدران غرفته، حتى كاد أن يُجن.

لكن نجلاء قررت أن تخرج من عباءة المراقب الخجول وتذهب بشجاعة وتواجه جابر وجهًا لوجه. 

عندما التقت جابر سلمت عليه، وسألته عن حاله، وحاولت الاسترسال في الحديث، لكنه كان يرد ببرود شديد وعدم رغبة في الحديث، لكن نجلاء لم تستسلم، وكانت تحاول دائمًا الدخول في دوامة حياته، وتحاول أن تشعره باهتمامها به وبحياته، لكنه لم يرضخ. 

ذات مرة كان طلاب الدفعة قد جهزوا للذهاب إلى رحلة يعيدون فيها ذكريات الجامعة، لكن جابر رفض الذهاب، حتى أخذه أحد أصحابه قهرًا. 

عندما ذهبوا جلسوا في حديقة بهية تحفها ضفاف نهر يجري مارًّا بها، فأخذ جابر مقعده بالقرب من النهر بعيدًا عن زملائه. هنا استغلت نجلاء الفرصة وذهبت وجلست بجانبه، بالرغم من أنها كانت خائفة وأطرافها المرتجفة تفضحها، لكنها حاولت أن تخفي ذلك حتى تصل لقلب جابر وتفرغه من الكآبة والحزن اللذين يسكنانه، وتملأه حياة مورقة ويزهر شبابه الذي وهبه للحزن وفقدان الأمل. 

جلست بجانبه وسلَّمت عليه، وبدأت الحديث معه بداية مختلفة، لم تسأله لمَ أنت جالس وحدك؟ أو لماذا أنت حزين دائمًا؟ حتى لم تسأله كيف حالك؟ لكنها بدأت تتحدث معه عن العالم من حوله وجمال وبهاء الحديقة.

فقالت له: انظر إلى ما حولك الآن، الماء والخضرة والوجه الحسن وأشارت بيدها إلى نفسها. فالتفت إليها، ونظر إلى عينيها نظرة خاطفة، كأنه يقول لها: صدقتِ. لكنه لم يتفوه بكلمة، وهي تثرثر وهو صامت. 

ومن بين كلامها كانت تقول له: إن الحياة متقلبة لا تقف عند حال، وإن كلًّا منا له قصته المؤلمة في هذه الحياة، ولكننا لن نتوقف عند موقف أو ظرف ونسمح له بأن يتملكنا ونعيش في كدر، بالرغم من جمال الحياة. الإنسان سُمي إنسانًا لأنه ينسى. المواقف والظروف لا بد أن تجعلك أقوى، لكي تعيش في هذه الحياة لا بد أن تحاول تجاوز العقبات. 

هنا رد جابر مقاطعًا: وما فائدة الحياة عندما يذهب من تحبهم ويتركونك وحدك؟ كيف تعيش وتحقق حلمًا كان قد رسمه لك شخص لم يعد له وجود؟ كيف تسير في درب كان أحدهم يريد عندما تصله أن يمشيه معك؟ كيف، قولي لي كيف؟ وانهار باكيًا ولم يستطيع أن يتمالك نفسه ويحبس دموعه.

صارت نجلاء مترددة قلقة مما حدث، مدَّت يدها نحوه لتربت على كتفه، لكنها تراجعت، وأخذت تواسيه بالكلمات قائلة: ابكِ بقدر ما تستطيع؛ حتى تُخرج ما بك من ألم ومرارة الفراق، حتى تستطيع مواجهة الحياة مرة أخرى دون ألم، كي تصبح أقوى. 

بكى وبكى وازداد بكاؤه، حتى خشيت أن يسمعه أحد زملائه ويأتي ليسأله حيث لا يرغب هو بذلك. ولكنهم كانوا مندمجين في لهوهم وأُنِسهم. 

بعد ذلك أخرج منديلًا من جيبه وأخذ يمسح دموعه، ثم تنهد وصمت بعض الوقت. ونجلاء لا تزال جالسة بجانبه تنظر إليه وهو ينظر إلى النهر. ثم قطع صمتهما صوت أحد أصدقائه ملوحًا بأنه قد انتهى وقت الرحلة وحان وقت العودة. فقام جابر وترك نجلاء جالسة كأنها لم تكن تواسيه. ثم قامت هي الأخرى وركبا الحافلة.

جلست نجلاء بمقعد بالقرب من النافذة تنظر إلى الخارج وتنتظر ركوب زملائها حتى تتحرك الحافلة، فأتى جابر وجلس بالمقعد الذي بجانبها، نظرت إليه ثم أدارت وجهها إلى الجهة الأخرى، لم تكن ترغب في الحديث معه، وبين يديها مذكرة تكتب فيها: أنا كنت مخطئة عندما ظننت أنه يمكنني أن أغير جموده هذا، ولكني فشلت، فهو ذو قلبٍ بلا إحساس متجمد، كأن أبويه قد سلباه قلبه وروحه بل حياته كلها، فهو جسد بلا روح وبلا مشاعر، أناني في تصرفاته مع من حوله.  وهي تكتب وتحاول إخراج ما أدخله بها من إحساس بالإحراج. 

حاول اختلاس النظر إلى مذكرتها وقراءة ما كتبت. ثم قال لها: أنا آسف. فلم تعره اهتمامًا، وأغلقت مذكرتها، وظلت تنظر إلى النافذة في غضب قد بان على وجهها. 

وظلَّا صامتين إلى أن نزل كل منهما أمام منزله.

يتبع...

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

قصة جميلة جدا ومؤثرة🥲🥺
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

قصه جميله جداً. حزينه في بعض الأوقات ومسليه في أوقات اخرى. 😊😊😊
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة