أسند على ظهره، فشاهد صورًا تمر أمامه، كما يمر شريط الأخبار.
استمر على هذا المنوال أيامًا وليالي عدة.
طلب من أخته الصغرى البقاء إلى جواره، ليرى إن كانت ترى ما يراه.
عمد إلى النور فأطفأه.
عفراء: لماذا أطفأت النور يا عساف؟ ألا تعلم أني من الظلام أخاف!
- انظري نحو الجدار، هل تشاهدين ما أشاهد؟
عفراء: تريد إخافتي يا عساف! لم أشاهد سوى أنوار السيارات تخترق الشرفات.
خرجت دون انتظار، أفشت إلى والديها ما صار.
فتبين لهما، بوضوح تام، سر بقاء عساف في الظلام.
سألاه: عساف؟
فرد: أرى ذلك منذ عدة سنوات، صور بشر، وسباع، وأشلاء، وقلاع.
احتاروا بأمره، فتركوه وشأنه.
ذات ليلة، شاهد ضمن الصور العابرة، مشهد مُبارزة، فأُجتز رأس أحدهم، فسمع ارتطام رأسه حينما خر.
فُزع عساف، أوقد النور، فشاهد الرأس المبتور، في أرض الغرفة يدور.
ثم هبط صاحب الرأس، انحنى آخذًا رأسه بيده، فوضعه على جسده، ثم توارى في الجدار.
ارتعب عساف، فصاح واستجار.
حضر الجميع إليه، وجدوه مغشيًا عليه.
أيقظوه بعد أن رشُّوه، أصاب صوته بُحَّة، تلتها كُحَّة، لم يستطع النطق بجملة، فذهبوا به إلى طبيب أعصاب.
فرد الطبيب: إنه مصاب بحالة اكتئاب، وما يراه محض خيال، لما قرأه في كتب التاريخ، من حروب وسجال.
أكمل عساف الثانوية، فالتحق لأداء الخدمة في القوات البحرية.
استمر يرى ذلك.. وفي الخيمة، في أثناء مدة تدريبه، تفوق عساف في الغوص في الأعماق، وقوارب السباق، فكان اسمه لامعًا، ونجمه ساطعًا.
أُعجبت به بثينة أشد العجب، فكانت ترافقه أينما ذهب، وتعبيرًا عن الود القائم، تبادلا الوشم على المعاصم.
في إحدى الدورات، عاد الفريق من الغاطس، تفقده القائد، وجده ناقصًا.
نادى الرقيب بالأسماء من سجل الدفاتر، لم يكن عساف حاضرًا.
أُعلن الاستنفار، جرى البحث في كل مسار.
مرت نصف ساعة، عاد الفريق للغوص في الأعماق، جرى البحث عن عساف، على أوسع نطاق.
احتار القائد فقال: وقت أنبوب الأكسجين فات، إذا كان لا يزال تحت الموج، فقد مات.
فجأة، ظهر عساف، على سطح البحر طافٍ.
انشرح القائد معطيًا أمر الانصراف.
دخل الجميع العنابر.
صال عساف وجال في البراق، فردى ذراعيه على أوسع نطاق، أمطر زملاءه تقبيلًا وعناقًا.
بعد أن هدأ واستقر، أمسك بذراعيه قائد المقر، سأله باستلطاف:
ماذا جرى يا عساف؟
أراك بوجه بشوش، براق!
رد: أيها القائد، أيها الرفاق، في أثناء غوصي في الأعماق، شاهدت في مرج البحر مدينة، خلف زجاج شفاف، تزخر بكل صنوف الزينة، تشع بكل الأطياف. تحفها حدائق، وجنان، لا تغلي فيها قدور، ولا يتصاعد فيها دخان. بقيت مذهولًا، حاولت جاهدًا الدخول، بُؤت بالفشل، هذا كل ما حصل.
التف الجميع حوله، منصتين لقوله، وبعد أن أتم، انهالت عليه المواعظ والحِكم.
ضحك الكل باستخفاف، متسائلين: ماذا حل بعساف؟
إلا أن عساف ظل على إصراره، لم تتغير أقواله.
دنت منه بثينة، هامسة في أذنه: في الغطسة القادمة، سوف أكون لك ملازمة.
عند وصولهما المكان، أشار عساف لبثينة بالبنان، وهو يلامس صخرًا،
يتخلله أخدود.
فلوَّحت له بالجحود، وطلبت منه الصعود. وعند وصولهما المقر، سأل القائد بثينة عن فحوى الخبر.
فقالت: كل ما لمسته صخر جلمود،
بعدها عاودنا الصعود.
لم يسمح له قائده بالغوص مرة ثانية، بعد أن شاع خبره، وأنه أضحى فاقدًا لعقله.
اقتصر دوره على حراسة المقر. اضطرَّ، تعكر، تكدر، وكلما لمح غواصًا ظهر، هرع إليه،
سائلًا بصوت زاجر: هل عثرت على مدينة الزجاج؟
تصرفاته لم تعد تُحتمل، صدر قرار فصله من العمل.
عاد إلى منزله، حزينًا، كثير الآهات والأنين.
كلما حمل بذلة غوص، أخفاها، لشدة تعلقه بها.
اعترا بثينة حزن وغم، فعساف فارسها الملهم.
لم يمكث عساف لدى أهله، بل ذهب إلى أحد أصدقائه.
في مرفأ صيد، فعمل صيادًا عدة سنين، تزوره بثينة من حين إلى حين.
اختفى عساف وضاعت أخباره، كانت بثينة تقتفي أثره، وتتبع خبره، يشاركها في ذلك صديقه الصياد معاذ.
عثرا على قبعته، في منحدر جبل، بين كهف وجدول.
استمرا باحثين، مجدين، من حين إلى حين.
تتبعت بثينة خطاه ومساره، فأوصلتها إلى مغارة.
فصاحت: هلم، هلم يا معاذ، نلنا المراد!
أقبل معاد هرولة، حاملًا في يده معوله.
جثا على ركبتيه، يقلب الكنز بين كفيه، لم يصدق ما تراه عينيه.
قالت: هذا ملك عساف، هذه طاقيته، وآثار أقدامه.
رد: كلا: بل هو لنا، نحن من عليه عثرنا.
تريث يا معاذ، ربما عاد، ما تقوله ليس فيه إنصاف.
ألم نأتِ أساسًا للبحث عن عساف؟
دعك من هذا وذاك، إن لم تأخذي النصف راغبة، أخذت أنا الكل عنوة.
- رأت بثينة، معاذ، جاد، غضبه زاد، فدارت، عازمةً على الخروج من المغارة، على أمل أن ترى عساف قادمًا، فيثني معاذ عما هو عليه عازم.
باغتها معاذ، تخلص منها دون انتظار، ثم أخذ كل الذهب، ولاذ بالفرار، بعد أن ضرب بثينة بالمعول خلف رأسها، فسقطت مغشيًا عليها.
وبعد ساعات؛ صعد عساف بحمله الثاني، فوجد بثينة في المغارة، وهي في أشد حالة؛ ممسكةً بيدها القبعة.
وضع ما على كاهله من أحمال، وانطلق إلى الجدول باستعجال، أحضر حفنة ماء، نضح وجهها، ثم وضع رأسها على ركبتيه.
ففتحت عينيها، وهمَّ بتقبيلها، وقبل أن تلامس شفتاه شفتيها، ركلته صفصاف بإحدى قدميها، ركلةً انتشلته من موضعه، فهوى مرتطمًا في الزاوية.
- ثم اقتربت منه، ونظرت إليه بغضب، تكاد عيناها تقدح لهبًا، فقالت: "اعلم أنك لي، دون غيري، شاركتني بصري، فلن تغيب عن نظري! إن أطعتني، نجوت، وإن عصيتني، غدوت."
- أظهر الخضوع التام، وتوسل إليها بطيب الكلام؛ أن تساعده في علاج بثينة، واستعادة المسروقات الثمينة.
فقالت: "عفوت عنك زلتك، سوف أحقق مطلبك."
- استعادت بثينة وعيها، فشرحت لعساف ما حلَّ بها.
كان عساف، يرى صفصاف نصب عينه، بينما لم تكن تراها بثينة.
- فأشارت صفصاف إلى عساف بطرفها، موحيةً له باللحاق بها.
- حمل عساف وبثينة ما صعد به.
دخلا إلى كهف الكفرة، طلبًا للراحة، فتوارت صفصاف في الصخر وساحة.
قالت بثينة: "مالي أراك شارد البصر! هل رأيت في الكهف شيئًا يُذكر؟"
بقي صامتًا على نحو لافت.
عادت فقالت: "عساف، إن كنت تسمعني، أصدقني القول، فقد أصابني عليك الهول، أين كان غيابك؟ ولماذا مُزِّقت ثيابك؟ من وهبك وأعطاك حتى أغناك؟ هل قابلت ملكًا من الملوك؟ أم سرقت أحد البنوك؟"
- بعد أن سمع الخبر دار، وبالسبابة نحو الكف أشار.
فقال: "هل تشاهدين ذلك الكف المعلَّق؟ هو من فتح الباب، وأغلق."
نظرت بعينين دعجاء، تشبه عيون المها.
فقالت: "كلا! لم أرَ."
قال: "خلف هذا الكف باب، يليه سرداب، إلى مدينة، فيها ما لذّ وطاب."
- تقدمت بثينة بخُطى خفاف، علَّها تجد ما يشير إليه عساف.
ثم قالت، محاورةً ذاتها، بعد أن مشطت الجدار بأناملها:
"أضحى عساف فاقدًا لصوابه، والبقاء بجواره هو الانتحار بذاته."
قال عساف: "اجلسي، لا تغضبي، سوف أشرح لكِ قصتي؛ فبعد أن
انتابني الحنين لماضي الدفين، فنويت الغوص.
أوصلت القارب إلى الأعماق، وتركت عليه اثنين من الرفاق.
ارتديت البذلة فغصت، فعثرت على المدينة، فلصقت على زجاجها كالزينة، وكنت شاردًا فيما أشاهد، تقدمت نحوي فتاة جميلة، خارجة من أحد قصور المدينة.
وضعت راحة كفها على الزجاج، مكتوب فيها:
"الباب خلف صخرة، في جوف كهف الكفرة، تحفة من التحف، منحوت عليها صورة كف."
علقت هذه العبارة في ذهني، فصعدت في وقتي وحيني.
انطلقت في الفيافي والقفار، تاركًا صيد البحار.
استمريت في البحث عن الباب، بين التلال والهضاب.
جبت القرى، والأرياف، سائلًا:
من سمع؟ من رأى؟ من شاف؟
لم أدع بائعًا جوالًا، ولا راعيَ حلال، ولا متقطعًا، ولا سارقًا، ولا نشالًا،
إلا ووجهت له السؤال.
سألت كبار الإناث والذكور، عن الكهف المذكور.
بعد أن كَلِلت ومَلِلت، قعدت قرب جدول، خلعت فاغتسلت، وبعد أن أكملت، لمحت كهفًا في منعطف.
قصدته، ووجدت في جوفه رسمة كف.
شاهدتها معلقةً كالميدالية، وهي في حركة خيالية، تلوّح بالترحاب والتحية، غضّة، طرية، ليست جمادًا، بل حيّة.
استقمت أمام الكهف مبهوتًا، لم أتراجع ولم أفوِّت.
فجأة، دار الكف كما يدور الباب، فظهر خلف الكف سرداب؛ تتداخل فيه الأضواء، كأنها نجوم السماء.
فدخلت لا أُبالي، قُرعت الأجراس، نادى منادٍ:
"أيها الحراس، دخل غريب المدينة، عليكم بالقبض عليه!"
ظهر أمامي مخلوق فضيع، حملني بين ذراعيه كالرضيع، يمشي على قدم، تقطر عيناه دمًا.
تتدلى من شفتيه مخالب، لا حاجب له، ولا شارب.
سألته: "من تكون؟"
رد: "أنا حارس السرداب."
سألته: "كيف فتحت الباب؟"
حينها غشاني نعاس، ففقدت الحواس.
استيقظت، فإذا أنا على سرير، ديباجته حرير، في غرفة زجاج، سقفها عاج.
شاهدت المدينة، حولي قصور، وأبراج، مشيدة من زجاج.
سكانها يسرحون، ويمرحون، يُخيَّل أنهم في الفضاء يسبحون.
يحضنها البحر بظلماته، تداعب زجاجاتها أسماكه.
فنويت أن أطوف، هممت بالوقوف، فظهرت تلك الفتاة، فقالت: لفيت، سعيت، وإليَّ أتيت، ليس لك مني مناص، فلستَ أول ولا آخر من غاص.
قلت: من أنتِ أيتها الحسناء؟
لم أفهم لكلامك معنى. لماذا جسدك شديد اللمعان؟
هل أنتِ جنيَّة من الجان؟
ردت: أنتَ من عليَّ جان، لا مفر لك بعد الآن!
قلت: أخبريني، كيف اعتديتُ عليكِ، ومتى حدث ذلك؟
إن كنتِ متأكدة من صحة أقوالكِ.
ردت: في وقت من الأوقات، قبل عشر سنوات.
كنتُ على هيئة حمامة، من الحمام الزاجل، أتنقل على سطوح المنازل.
حططتُ على شرفة بيت، فإذا بك أتيت، وبقوسك رميت.
ففقأتَ عينيَّ، وحين أصبتني، شكوتك لأبي؛ فلم يكن لك مناص، من إجراء القصاص.
اُستُبدلت إحدى عينيك بعيني، فصار لك عين إنسي، وعين جني.
ها أنتَ ترانا، ونراك، ألم يكن هذا مُبتغاك؟!
قلت: الآن أتيتِ بالحقيقة، فقد عشتُ حينها لحظات عصيبة، شعرتُ بشرارة، كبرق راغ، اخترق عيني، وسكن الدماغ.
وقتها خضعت لعلاج البصر، بعد أن اختل عندي النظر، ومن حينها وأنا أرى ما لم يره البشر.
مخلوقات متداخلة، وأجسام متطايرة. زادت معاناتي، انعزلت عن العالم، بقيت في غرفتي.
أرى أن الوقت قد حان، ليعود كلانا كما كان.
دعيني أعيش عالمي، وعيشي أنتِ عالمكِ.
ردت: ما حدث صدر فيه حكم بات، قضت به محكمة الجنايات.
لولا ذلك، لم تكن لتفوز، في العثور على الكنوز.
قلت: وأين أنا من ذا وذاك؟ لم أرَ سوى الرعب والهلاك.
الآن عليكِ أن تخبريني، أين نحن؟ ومن تكوني؟
ردت: نحن في مملكة من ممالك الجان؛ لم يدخلها قبلك سوى إنسي، وأنتَ الثاني، والأول لم يختلف عليه اثنان.
هل ترى المعلَّقين، على الزجاج ملتصقين، مصفدين مقيدين؟
إنهم جن غواصة، متمردة، عُتاة، كلٌّ منهم يعاقب بما اقترفت يداه.
فهذا سجن عقاب، لا مخرج لهم ولا باب.
سألتها: أأنتِ من وقفتِ، خلف الزجاج الوضَّاح، على كفك الإيضاح؟
ردت: نعم، رأيتُك محتارًا، فدللتُك على المسار. وكان ذلك لك، بمنزلة اختبار.
قلت: دعينا نلف، على حافة المدينة، نستمتع بمنظر البحر، وأسراره الدفينة.
مشيتُ خلفها، كان بصري يخترق جسدها، فأرى الأشياء بواسطتها، كأنها ظل، لا دم، ولا لحم لها.
شاهدتُ ظلمة الأمواج، واضعًا كفي على الزجاج.
فإذا بحوت مهول آتٍ، سابحًا بمحاذاتي.
فجأةً اتجه نحوي، فاتحًا فمه يريد التهامي؛ تراجعت للخلف بانزعاج، خشيت أن يخترق الزجاج، إلا أنه ارتطم، فتحطمت أسنانه، فغيَّر مساره.
كنتُ أرى سكان الدور، ليس عليهم حجاب مستور.
يلامسنا رذاذ الهواء، الناتج عن نوافير الماء.
إنها مدينة مترامية الأطراف، والجن فيها طوائف وأصناف.
استمررنا في العبور، في ممرات القصور، انتهينا إلى باب مسدود، تحرسه أسدان.
تقدمت الفتاة، فوضعت خرزة في فم الأول، وألقت بالثانية في أذن الآخر، فانفتح الباب واندحر.
دخلنا فإذا بباب موصد، يحرسه عبد أسود، وقفنا بمحاذاة ركبتيه، فارع الطول، وجهه في صدره، انحنى فأخذ الفتاة، بقاع كفه، ورفعها إلى مستوى فمه، تبادل الحديث معها، ثم أعادها.
فصرخ بصوت شديد، فانفتح الباب الحديد.
دخلنا فإذا بنا أمام ملك على رأسه تاج.
فقالت: احنِ رأسك، أنت أمام ملك مملكة الزجاج.
قال الملك: ابنتي صفصاف، أهذا غريق، هل ضل الطريق، أم وقع في ضيق؟
ردت: بل أنا من أحضرته كي تقتص لي منه، هذا الإنسي مسي، قذفني بحصى مسنون، أفقدني إحدى العينين.
قال الملك: ألم نقتص لكِ في حينه، وأعطيناكِ إحدى عينيه! لماذا عدتِ لتحضرينه؟
قالت: هو من أصر، على طلب إعادة النظر، في حكمك الذي صدر، فقد لحق به ضرر، لم يعد يميز بين الجن والبشر.
قال الملك: وما طلبه الآن؟
ردت: إعادة ما كان إلى ما كان، ونقض حكم تبادل الأعيان.
طلب الملك من الحاجب إحضار الملفات، ثم قال: أضحى الحكم باتًّا، وميعاد الطعن فيه فات.
سنعطيه تعويضًا يقتات، اذهبي به إلى إحدى الخِزانات، فليحمل ما استطاع من ذهب، ومجوهرات، ثلاثة أحمال، في أوقات متفرقات.
أوصلتني صفصاف إلى المخزن في حينه، فحملت ما خف وزنه وغلاء ثمنه.
اقتادتني صفصاف نحو السرداب، كي تدلني على الباب، فشاهدت عدة أبواب.
فسألتها: أي باب من الأبواب يمكنني منه الذهاب؟
ردت: هذا السرداب ذو الباب الأصغر، يذهب بك إلى قاع الهرم الأكبر.
بينما ذاك المنحوت، يوصلك إلى عين جالوت.
أما ثالث الاثنان، فيؤدي إلى مملكة الرمال، وكهف الجن في عُمان.
ولكي تعبر إلى نهاية المسار، لا بد أن يساعدك جني سيَّار.
- عندها حضر المارد إياه، حملني بما أحمل من ذهب.
فوجدت نفسي بلمح البصر، في الكهف المنتظر، وبحوزتي، سبائك ذهب، ولؤلؤ، وجواهر، لا أول لها ولا آخر.
وضعتها في غار، لا يُرشد إليه مسار، ثم عدت من جديد، كي أحضر المزيد والمزيد، وها أنا عدت فوجدتك في شر حال.
فقالت: الآن انتصف النهار، وعائلتي في الانتظار.
وقد جف ريقي مما أسمعتني من أهوال.
في هذه الأثناء، تراكمت السُحب، فأمطرت السماء.
هرع إلى الكهف، قطيع أغنام، خلفها راعٍ، على الباب استقام، على كتفه وعاء، وفي قبضته عصا.
انذهل أشد الذهول، فما يراه غير معقول.
فقال بصوت مسموع: استرنا، يا إله السماء، رجل يخلُو بامرأة حسناء، شكلكما غريب، وأمركما مريب.
ثم صرخ: يا شيخ شكيب! إنه كفر بواح، في كهف من كهوف الضياح.
ثم تابع الصياح.
- همس عساف في أذن بثينة، أن تخفي المجوهرات الثمينة، كي لا تقع عليها عينيه.
- أخذتها وتدحرجت، خبأتها خلف الصخور المبعثرة.
بينما ظل عساف أمامه، واقفًا يلهيه، بعد أن أتمَّت بثينة، عادت، فحاولت أن تغريه، وعن موقفه تثنيه، فقالت بصوت يشوبه الحنان: من يكون شكيب الذي تعنيه؟
رد متلعثمًا: إنه شيخ العشيرة.
- ولماذا تناديه؟
- يعود إليه الأمر وتدبيره.
قالت باستعطاف، واستلطاف، واضعة كفها على بطنها: أشعر بجوع شديد، وظمأ، هل لك أن تحتلب لنا؟!
اجتاحته الشفقة، فخلع طوق الدلو عن عنقه، فشرع في حلب الشاة، تلو الشاة، وطرف عيناه قفاه.
تهامسا بالهروب، عندما كان مشغولًا.
فحال بينهما وبين ذلك، غزارة الأمطار، وتدفق السيول.
قال عساف بصوت خافت: الحل أن نكتفه، ثم نغادر من هنا، حين تقلع السماء.
ردت: دعنا نشرب اللبن الآن، ربما يكون موقفه قد لان، إن بقي مصرًّا، كما كان، حينها يكون لنا معه شأن.
- حضر بالحليب بدلوه، ثم أخرج رغيف خبز، من تحت معطفه، فهشَّمه، هشمًا شديدًا، صنع منه ثريدًا.
قدمه إليهما بوجه بشوش، فوجداه لذيذًا، فمشوه، مشوش.
سألته بثينة: ما اسمك؟
رد: لبيب.
- هل أنت متزوج؟
- بأعز حبيب.
- هل لديك أولاد؟
- راشد ورشيد.
- ألا يزال والداك على قيد الحياة؟
- مقعدين، للموت ناظرين.
- إن كنت بحاجة للمال، نعطيك في الحال!
بشرط، أن تكف عن إيذائنا، وألا تخبر عنَّا سواك.
رد: أتيتما أمرًا معيبًا، ولا بد أن تمثلا بين يدي شكيب.
قال عساف: ما كان حكمه، على من قبلنا، فيمن شابه حاله حالنا؟
رد: يُجتز قضيب الذكر من منبته، ويُخاط رحم الأنثى بعد جرحه.
قالت بثينة بفزع: يا للهول، ما هذا القول؟ كيف بالبول؟
لن يعود للحياة معنى، إني أفضل الفناء.
اعفنا يا لبيب، سنعطيك حتى نغنيك!
رد: سوف أشفع لكما لدى الختان، أن يُحدَّ الشفرة، وتُحمى النار.
- هذا مهين، ونحن لم نأتِ فعلًا مشينًا، ألا يطلب شكيب، الأدلة، والبراهين؟
رد: هو لا يطلب سوى أمرين:
الأول: وجود ذكر وأنثى في خلاء،
الثاني: أن يكونا بالغين راشدين، عدا ذلك ليس له معنى.
كفَّ المطر، أحست بثينة بالخطر، انتزعت خمارها، دارت من خلفه، فلفته حول عنقه، بطحته على ظهره، في حين جثا عساف على صدره.
تمكَّنا من شد وثاقه وتكميم فمه.
فإذا باثنين ملثمين، عند باب الكهف واقفين، إليهما ناظرين، ولسيوفهما شاهرين.
سألاهما: ماذا جنى حتى تعاقباه؟ هيا اتركاه! امتثلا مطيعين، فُكَّاه في الحين.
ظل الراعي متصلبًا، ساكن الجفنين، والشفتين، بعد أن لمح من يقف قفاهما.
تعجبت بثينة، وعساف، لما رأيَا.
فأيقظاه، ورفعاه، حتى أقعداه.
فقال أحدهما: من هذان يا لبيب؟
رد: وجدتهما هنا بحال مريب، عندما عزمت على إيصالهما لشكيب، ارتكبا هذا الفعل المعيب.
ردا: لا شأن لنا بهذا، آتنا مبتغانا.
قال الراعي: أوصلاهما لشيخ العشيرة -إن رغبتما- وبعد أن تعودا لكما ضعف ما طلبتما.
ردا: أنت تعلم، إنَّا سَرِقان، نقتات على اللحم والمرق، تريد أن ينقض علينا شيخ العشيرة، فتتخلص أنت منا على هذه الوتيرة! بل اذهب بهما أنت، ونحن باقيان، لغنمك راعيان، وللنار موقدان.
رد: بشرط، أن ترافقاني، إنهما طغاة، بغاة، يشدان الوثاق، ويكممان الأفواه.
صار الأمر كما يريد لبيب، فأوصلهما إلى شكيب.
كان صيتهما قد شاع، وخبرهما ذاع، إنهما بغاة، طغاة، عثر عليهما راعٍ من الرُعاة.
سأل شكيب عساف، في بداية المطاف: ما اسمك؟
رد: عساف.
أخبرنا يا عساف بإسهاب قبل أن يحل عليك العذاب: ما عملك وبلدك وسبب مجيئك؟
أجاب: فأوفى وأجمل، بكل ما حصل.
ساد الهرج والمرج بين الحاضرين، بعد أن سمعوا اللغط.
متمتمين، مهمهمين: كهف، كف، مدينة زجاج، هذا معتوه، بل مخبول، ماذا يقول؟
وأنتِ، أخبرينا بأمرك؟
ردت: أنا بثينة... أتيت خلفه، للبحث عنه، برفقة معاذ زميله.
في المغارة، عثرنا على جواهر ثمينة.
حينها غدر بي الغدار، أخذ ما عثرنا عليه، ولاذ بالفرار، وها هي آثار الفأس على الرأس.
التفت الشيخ نحو عساف فقال: سنرسل اثنين من الخيالة، إلى كهف الكفرة، فإن عثرا على الكف معلقة، نلت منا التصديق والثقة.
ذهبا، فعادا في الحال، نافيين صحة ما قال.
طلب عساف الذهاب بنفسه، في نهاية المطاف، برفقة اثنين من الأشهاد، قائلًا: إن لم أعثر عليها عدت إلى الجلاد.
وافق الشيخ فذهبوا، استقاموا عند باب كهف الكفرة.
فأشار عليهما عساف قائلًا: ها هي اليد معلقة!
نظر كلاهما إلى الآخر، نظرة استنكار، فلم يريا شيئًا مما ذكر وصار.
طلبا منه أن يدخل ويحضر الكف، ليريَاهَا!
مشى نحو جوف الكهف، يتبختر، وبقي الحارسان مصوبين خلفه النظر!
فتوارى، وذاب، في صخرة صماء، كما يتلاشى بخار الماء.
فزعا لما رأيا، دخلا الكهف، فتشا.
إلى الشيخ عادا، وهما يرتجفان،
أخبراه بما رأيا، فامتطى خيله، وذهب إلى الكهف بنفسه.
لم يعثر على شيء يُذكر، فقال: إنهما من الجن، ليسا من البشر، غادرا المكان بحذر.
عادوا إلى بثينة، ولسانها قُبب، من حكم شكيب المرتقب.
لم ترَ برفقتهم عساف، فقالت: آتوني بجثته، لن أخشاكم، لن أخاف.
نظر نحوها شكيب، فقال: اخْلِيا سبيلها، تلحق بعشيقها، فكلاهما جنٌّ في نهاية المطاف.
فكَّاها مسرعين، وعنها مبتعدين.
لحقت بشكيب، ففر منها، وتحصن خلف لهب.
وكل من أقبلت نحوه هرب، لم يتضح لها السبب.
عثرت على الراعي، يذود شاته، تعلقت في ترقوته.
- أين عساف؟ آتني به.
رد: دخل الكهف فاندثر، ولم يُعثر له على أثر.
- إن كنت تريد النجاة، أوصلني إلى الكهف إياه.
رد: أليس للجان قدرة على معرفة أي مكان؟
على الرغم من ذلك، سوف أدلك، كي تقيني شرك.
اقتربا من الكهف، وقف بعيدًا، بعد أن شعر بخوف شديد.
فطفق راكبًا على حماره، عائدًا نحو داره.
دخلت الكهف بثينة، مكلومة، حزينة.
أخذت الكنز المدفون.
عادت إلى أهلها متخفية عن الأعين.
تترقب أخبارًا عن عساف!
انقطعت أخباره، طال غيابه، تنكرت بلباس غير معتاد، ذهبت لزيارة معاد.
سألت عنه قبطان المراكب، فرد أحدهم بتعجب: ترك صيد البحار، فصار من كبار التجار.
- إليك عنوان متجره، إن كنتِ جادة في طلبه.
بعد عدة أيام، عثرت عليه. فإذا هو بين البهوات، له مدير مشتروات، كل أوقاته مشغولة، لا إحسان، لا ترجي، كلماته محصورة بين الأمر، والنهي، والتحدي.
كانت بثينة في أبهى حلة، ظهرت بمظهر سيدة ثرية.
دارت في المتجر، تتبختر، كي تلفت النظر.
لمحها معاد داخلة من الباب، هرع إليها تاركًا درج الحساب.
استمر يشرح ويمدح كل الأصناف، بكلام رقيق واستلطاف.
وقبل خروجها من المتجر، نظرت نحوه بطرف أحور، ملمحة بالعودة وقت آخر.
باعت بثينة بعض المجوهرات، اشترت إحدى العمارات، أحضرت عائلتها فتركوا سكن الحارات.
فتحت معمل خياطة، فكانت صاحبة ريادة.
ظل حقدها يتنامى بازدياد، للانتقام من معاد، إلا أنها فضلت التريث وقتًا كافٍ، علَّ وعسى يظهر عساف.
كانت تزور عائلة عساف بين الفينة والأخرى، وتعطيهم ما يحتاجون من مالها، دون أن تكشف عن هويتها.
مرت الأيام...
ذات مساء، بعد أن تناولت بثينة طعام العشاء، استندت على ظهرها، تشاهد التلفاز، قرأت إعلانًا!
عن قيام شركة عساف الأهلية بإنشاء كلية الأحياء البحرية.
موضحًا في الإعلان، المقر والعنوان.
التقطت بثينة الخبر المشاع، فباتت تنتظر الشعاع.
كان لقاءً غير معهود، بين فاقد ومفقود.
توافد الجموع على مقر المشروع.
طال العناق، فضاق الخناق.
التجمع زاد، كلٌّ يريد الفوز بالمزاد.
فصاح عساف بأعلى صوت: ها هي بثينة نجت.
تم تأجيل المزاد، الدعوة عامة لمن أراد حضور زفاف بثينة وعساف.
تهامس الحضور، وكان أغلبهم من رجال الأعمال، وتداخلت الأصوات: ما هذا! ماذا جرى!
كيف تحولت مظاريف المناقصة إلى دعوات زفاف؟
في خضم هذه المعمعة، خطفت بثينة عساف بكوع يدها اليمنى، مخترقة الجمع الغفير، أدخلته سيارتها، ثم قادتها مسرعة، ولم تتفوه بكلمة!
عساف: ماذا جرى يا بثينة! هل حدث ما أزعجك؟ إلى أين نذهب؟
لم ترد بلفظ أو إشارة.
أوصلته إلى معمل الخياطة الخاص بها، استقبله عمالها بالترحاب! سائلين: من يكن هذا الضيف المهاب؟
أدخلته مكتبها، وأحضرت بعض الشراب، ثم قالت: لا زفاف ولا كتب كتاب، قبل أن تشرح لي ما جرى لك، وكيف أفلتَّ من الشيخ شكيب حتى ظهرت على التلفاز.
عساف: يا بثينة، هذا ليس وقت شرح ما كان وكان؛ بل وقت لقاء الخلان.
بثينة: لا تحرق أعصابي وتزيد من عذابي! لقد أضحيت بالنسبة لي لغزًا من الألغاز، هيا أخبرني؛ كيف نجوت من شكيب؟ وكيف ظهرت بهذا الغِناء العجيب؟
عساف: شرح ذلك يطول، ويحتاج إلى رَوَقان ومزاج، سوف أوضح لك ذلك بعد الزواج.
بثينة: كلا! ها أنا قد أغلقت الباب بالترباس، وقعدت على الكنبة، تكلَّم ولا تحتاس.
رأى عساف أن بثينة مُصرَّة، فوجد نفسه مغلوبًا على أمره، فقال:
عساف: يا ملكة الأزياء، اعلمي أنه بعد فراري من شكيب، بحضور الحشد المهيب، دخلت الكهف، ووقفت أمام الكف، ففُتح السرداب، والتقاني العبد المهول، فالتقطني كالذباب، وألقاني أمام المخازن، فحضر الخازن، ونظر في أمري، فوجد ملك الجان المعلوم لديه، في سند الصرف المرقوم، فقال: دورك لم يحن يا غلام، عليك العودة بعد عام.
احترت أين سأقضي هذه المدة، وما الذي سيحل ببثينة؟
بلغ مسامع ابنة ملك الجان، صفصاف، حضوري، فباشرتني بالضيافة، شارحةً لوالدها محاسني وأوصافي.
فأجلسني مجالس الجان، وقربتني من الخدم والأعوان.
هامت صفصاف بي عشقًا وغرامًا، فلازمتني على الدوام.
عرضت على والدها تزويجي بها، فارتعبت، وتملصت، وخفت.
وتحت التهديد، خضعت في نهاية المطاف.
إلا أني وضعت شرطًا، وافيًا، كافيًا، وهو استعادة عيني قبل الزفاف.
بثينة: أي عين؟
عساف: ها أنتِ بدأتِ الفضول! ألم أقل لكِ إن شرح ذلك يطول؟!
بثينة: المهم أنك تزوجت في نهاية المطاف، فماذا تريد مني يا صاحب الشرف والعفاف؟ هل تريدني درةً للجنية صفصاف؟
عساف: دعكِ من الاستعجال، واستمعي إلى ما يقال!
وضعت بثينة كفيها على خديها، محمرة وجنتيها، مغتاظة مما سمعته أذناها، فقالت: هات! أكمل المقولة، ولو أنه لم يعد يهمني ما ستقوله.
عساف: نلت مرادي، وعادت عيني إلى سابق عهدها.
عُقد قراني بصفصاف، وأقيم حفل زفاف.
حضره المردة، والجن، والغواصة، ورقصت بنات الجان على الدفوف، بلباس وجمال فائق غير مألوف.
فُتحت للضيوف المطاعم، فتكومت العظام والجماجم، وأُطلق سراح المسجونين في القماقم.
قضيت مع صفصاف عامًا، بعيدًا عن الضجيج والزحام، على مرتبة ساج، وكرسي زجاج.
وأنا كما ترين، قوي البنية، مفتول العضلات، أمارس الرياضة في أغلب الأوقات.
بينما كانت صفصاف نحيلة، خفيفة، تهفها الرياح كحبات الرمال،فكان التكافؤ بيننا على السرير: صفر على الشمال.
إذ كانت صفصاف تنخلني كالغربال، فسرعان ما أنهار وأتوقف عن النزال.
فأشعر بغثيان، ويستعر بدني غليان.
فأحاول الانسحاب في الغالب، فلا أقوى على الإفلات، فأبقى مقيدًا، مغلوبًا على أمري، منتظرًا متى يُفك أسري.
أضحت حياتي جحيمًا، بين السين والجيم.
تذكرتكِ وما حل بكِ، وأنتِ مقيدة لدى شكيب، فعزمت على إنقاذكِ.
فقلت: يا صفصاف، جسمك نحيف، ووزنك خفيف، إن أتيتِ معي لأهلي،
وأكلتِ رغيف دقيق البر الأحمر، المغموس بسمن البقر، ومضغتِ لحم الضأن المشوي، وشربتِ عسل النحل الصافي؛ عندها ستتغير أحوالك، ويتضاعف جمالك، بعد أن يزداد وزنك، ويكسو اللحم جسدكِ، دعكِ من العظام، والجماجم، وروث البهائم،
ليس فيهن غدق، ولا قطرة مرق، ولا يسدين رمق.
صفصاف: فطنت قولك، وفهمت قصدك؛ جذبك إلى بثينة الشوق، وتريد الإفلات من الطوق.
أنت تعلم أن حِملك الأخير سبائك ذهب، سوف أرافقك إن كنت ترغب.
عساف: حملتُ حملي، ونويت الخروج من وكري، وصفصاف تلازمني، في تحركي وسكوني.
وفي نهاية السرداب، استوقفنا حارس الباب، وبعد أن قرأ السطور، أذن لي بالعبور.
همَّت صفصاف باللحاق بي، فصدها مارد لا يُطاق.
نشب قتال ضارٍ، تطاير الشرار، تحولت صفصاف إلى كتلة نار، تصاعد دخانها، ثم آلت إلى رماد.
فتخلص من شرها العباد.
أنزلت بثينة كفيها من على خديها، وأطلقت تنهيدة وابتسمت وقالت: أكمل!
عساف: وصلت، فشاهدت في إحدى زوايا الكهف نارًا تستعر، خفت أن تُعاد الكرة الأولى، فذهبت نحو الزاوية الأخرى.
فتشت عن المجوهرات التي دفناها معًا، فلم أعثر على شيء منها.
فدفنت ما أحمل من الذهب، ونحو النار اقتربت، بعد أن ترقبت لساعات، فلم ألمح ذاهبًا ولا آتيًا.
وجدت على النار قدرًا يغلي بلحم الضأن، فأخرجت الرأس وقطعتين، ثم اختفيت خلف صخرة، فأكلت حتى سُدَّ رمقي.
حينها أتى اثنان، أحدهما يحمل بيديه قربًا، والآخر يحمل على ظهره كوم حطب.
جلسا حول القدر، أحييا النار، وبقيا يتبادلان الأحاديث والأخبار.
فقال الأول: لا بد أن نتخلص من الكلب العقور، ألم ترَ كيف كان يلف ويدور في أثناء سرقتنا كبش منصور؟ كاد أن يكشفنا.
قال الآخر: ساعدني على إنزال القدر، فقد استوى ما فيه، وضع ما تبقى من اللحم على الوقيد لنشويه.
لكن: لا تقرب الرأس، فهو لي دون نقاش، فمخ الكباش علاج الرجفة والرعاش.
رد: ولي الكبد، فحسب ما أعلم، أنها تزيل البلغم، وتعوض فقر الدم.
صاح الأول رافعًا للفأس عندما لم يجد الرأس: سرقتني!
رد: القِ ما تبقى من المرق، لعله التصق بقاع القدر أو احترق.
- لا أثر للرأس على الإطلاق.
احتدم النقاش.
قال الأول: ألم أكن لك في الذهاب والإياب مرافقًا؟
فكيف تقول عني سارقًا!
قال الآخر: إن هذا الكهف تسكنه الجن والهوام، أتذكر ما حدث فيه قبل عام؟ ألم ننقذ لبيب من محاولة خنقه من قبل امرأة ورجل غريب؟
تبين أنه جني عاشق، اسمه عساف، دخل هذا الكهف، واختفى في نهاية المطاف، في حين معشوقته بثينة تاهت في وقته وحينه.
فقال الآخر: الآن اقتنعت بالحقيقة.
إنهما موجودان، ويقاسماننا السرقة.
سنغادر المكان، لن نأكل مع الجان.
جمعا اللحم إلى القدر وأطفآ اللهب.
حمل القدر أحدهما، وحمل الآخر القِرب.
همَّا بالخروج، لم أتمالك نفسي، فكاد العطش أن يفتك بي.
انتفضت قائمًا، صرخت وبيدي صفقت، قائلًا: توقفا! إلى أين أيها السارقان؟
ردا بصوت واحد: عساف!
رددت: نعم، أنا.
- ماذا تريد منا؟ دعنا!
- لا بد من إيصالكما إلى شيخ الجن ليصدر حكمه فيكما، البين.
- خذ ما بحوزتنا، وأطلق سراحنا.
لم نقم بجناية غير ما جنينا.
رددت: ألم تقلقا الرقاد، وتسرقا العباد؟
طغيانكما وفسادكما زاد.
قالا: ما حكم شيخ الجان بمن سبق وأتى بمثل ما أتينا؟
رددت: يُقطع اليد، ويُبتر اللسان، ويُجتز الصيوان.
قالا: رضينا بعدلك، نفذ فينا حكمك، لا تُوصلنا لشيخك.
رددت: لا بد من كيِّكم بالنار، ليستقر في ذهنيكما ما جرى وصار، وتتعهدان بعدم التكرار.
لم تتمالك بثينة نفسها، فضحكت وقهقهت وقالت: انتظر، نشرب بقية الشراب.
هيا، أكمل، لقد اقتصصت وانتقمت لنا!
عساف: تقدمت، وضعت الفأس على الوقيد، ونفخت عليه نفخًا شديدًا.
فوسمتهما في الأنفين، وسمًا ظاهرًا، لا يستره ساتر.
ففرَّا مسرعين، للحم والقِرب تاركين.
فأكلت وشربت واستمتعت، ومع شروق الشمس هرعت، حاملًا سبائك الذهب.
وصلتُ المدينة، وهمي انصبَّ على كيفية بيع الذهب، وبعد أن تحقق لي ما طلبتُ، شرعتُ في تحقيق أمنياتي، فقد عشقتُ البحر وأهواله.
فاشتريتُ المراكب، والقوارب، وأصلحتُ ما كان خاربًا، وجمعتُ الصيادين من الشتات، وأعطيتُ عملًا لمن أراد أن يقتات، فأسستُ شركة صيد عملاقة، تنامت أرباحي من خلالها وفاقت.
بحثتُ عن معاد في أرجاء البلاد، وتحريتُ عنكِ في الريف والمدينة.
كنتُ قد وجدتُ عائلتي عند عودتي في رغد عيش، فقلتُ: لم يكن هذا حالكم عند التحاقي بالجيش!
أخبرتني عفراء أنها التحقت بإحدى الجامعات، وزُرعت لوالديَّ عدسات.
فقلتُ: سؤالي لكم أن تخبروني، كيف تبدلت أحوالكم؟
صار لكم خدم وبوابون، بل أضحى دارنا قبلة للمتسولين.
فشرحت لي عفراء كل ما جرى، بعد أن بشَّت بي أيما تبشير.
فقالت: أتَتْنا قبل عامين آنسة، تبدو من الحياة يائسة، على زندها وشمٌ منقوش، رشيقة القد، مسلهمة الرموش، عنك سألت بإلحاح، استضفناها حتى الصباح، استيقظت فغادرت في الحال، تاركةً على السرير مبلغًا كبيرًا من المال، لم تترك اسمًا لها ولا عنوانًا، هذا ما جرى وكان.
ومن يومها، ونحن كما ترى، في نعيم وثرى.
- تيقنتُ أنها أنتِ، الآنسـة اليائسة، السائلة عني بإلحاح، صاحبة الوشم والجبين الوضَّاح، أشرق بوجهي الصباح، وانشرح صدري كونكِ حية.
صُلتُ وجُلتُ كلاعب فاز،
فأنزلتُ إعلانًا في التلفاز،
عن تأسيس شركة عساف الأهلية
كلية الأحياء البحرية.
موضحًا في الإعلان المقر والعنوان.
كنتِ أنتِ المقصودة من الإعلان، كي أدلكِ على العنوان.
بعد أن ذهبتُ إلى سكنكِ، وسألتُ الجيران عنكِ،
أفادوا: بأنكِ مع أسرتكِ عزلتِ قبل مدة، نحو المدينة.
وها أنتِ التقطتِ الإرسال، وشددتِ إليَّ الرحال، هذا كل ما جرى.
انطلقت بثينة في الصالة مرحة، رافعةً يديها، مصفقةً، حوَّامة، دوَّامة، كأنها عوامة، ليس لها في الأرض إقامة، فقالت: انكشف المستور، واتضحت الأمور، هيا بنا إلى المأذون، إلى الزفاف المنتظر يا عساف، قبل أن تظهر صفصاف!
زُفَّت الزفوف، ودُقَّت الدفوف، كان فرحًا بهيجًا، غير مألوف.
بعد انقضاء شهر العسل، فُتحت المضاريف على عجل.
رُسِيت المناقصة، فكانت المفاجأة!
فمن فاز بالمزاد كان معاذ!
اجتاح بثينة ارتجاف، وتصلَّب جسد عساف.
انفردا للتشاور خلف ساتر، ليس حول المزاد، بل حول معاذ.
لم يكن لهما حياله طريق، فما قام به غير قابل للتحقيق.
ففضَّلا البقاء صامتين، يترقبانه من حين إلى حين.
فكان العمل لا يُحتمل، ولا يُطاق، استمر في الغش على قدم وساق.
كان تغاضي عساف وبثينة مقصودًا، فغضَّا الطرف.
فانهمك في الغش إلى أبعد الحدود.
وبعد أن أكمل، حضر لتسليم العمل، واستلام بقية المتحصل.
فأحضر عساف كبار المهندسين المعماريين، ونخبة المستشارين.
وبعد الفحص في القواعد والأساسات، تمَّ تطبيق معايير المقاييس والمواصفات.
فتبين الغش الكبير، واحتمال تهدُّم المبنى بعد عامين على أبعد تقدير.
وُجِّهت لمعاذ تهمة الخيانة، وصدر قرار بحبسه، ومصادرة أمواله، واسترداد مبلغ الضمانة، فسقط في شر أعماله. فزارته بثينة في سجنه،
فقال: ألم تموتي في المغارة؟!
ردت: أنقذني عساف في نهاية المطاف.
سبحان مغير الأحوال، أين ما أخذته من أموال؟ ألم تؤول إلى الزوال؟
عاش عساف وبثينة بسعادة وطمأنينة، موفرين آلاف الفرص لليد العاملة، مساهمين في النهضة العلمية، والأعمال الخيرية.
وفي آخر أيامه، ارتدى عساف بذلة الغوص، المحتفظ بها طيلة حياته، وارتدت بثينة بذلة مماثلة، غاصا في الأعماق، بعد أن ازداد لديهما الاشتياق للنظر إلى مدينة الزجاج.
لم يعثرا لها على أثر، وكل ما شاهداه كان حجرًا.
ذاع صيت الكهف وانتشر، فامتنع عن دخوله رُعاة الأغنام والبقر.
انتهى.
مقال رائع جدآ
لا أدري ماذا اقول، سوى أني اقف امام تعليقك خجول
اسعدني تعليك وسر خاطري بما خطته اناملك
تقبل تحياتي ✋🌷🌷
تحية من الأعماق✋🌹✋🌹🌷
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.