قصة "مرارة الوحدة".. قصص حزينة

استيقظ ليلًا كعادته ليجلس وحيدًا في شرفته يرتشف كوب القهوة الذي أعده لنفسه، فالظلام دامس من حوله إلا قليلًا من الأضواء الخافتة التي تنبعث من خلف النوافذ وبعض الشرفات، فينظر إليها لتعطيه الأمان من أنه ليس بمفرده.

وبينما يرتشف كوب القهوة وعقله شارد، يسمع صرير صوت باب الشرفة المجاورة له يفتح لتخرج سيدة خمسينية وتجلس دون أن تلتفت إليه أو تشعر بوجوده.

انتبه بشدة وهو يسأل نفسه "معقول أنها مدام علياء التي هاجرت هي وزوجها وأولادها إلى كندا منذ أكثر من عشرين عامًا لقد عادوا إذن! ولكن ملامح وجهها تغيرت قليلًا فأنا أتذكرها في شبابها، لقد كانت رائعة الجمال، لقد مرَّت السنوات سريعًا وبرغم خصلات الشعر الأبيض التي زحفت على شعرها، لكنها لا تزال تحتفظ بجمالها".

إنها تجلس وتنظر إلى السماء تتأملها في صمت، وللمرة الأولى منذ زمن يشعر بطفيف من السعادة داخله وهو لا يصدق أخيرا أصبح لديه جيران يأتنس بهم، لقد أرهقته مرارة الوحدة ومرور الزمن والأيام منذ وفاة زوجته وتركته وحيدًا يعاني آلام الفراق، فحتى منحة الأبناء الإلهية يفتقدها، لكنه كان يحمد الله على زوجته التي شاركته حياته حتى رحلت عنه، ولكنها تركت فراغاً كبيرا في حياته.

استدار إليها وألقى عليها التحية: "مساء الخير يا مدام علياء حمدًا لله على سلامتكم"

التفت إليه مدام علياء وبادرته بابتسامة "إزيك يا أستاذ أحمد كيف حالك؟"

أحمد: " الحمد لله كما ترين أجلس وحيدًا، فمنذ أن رحلت زوجتي ولجت إلى سن التقاعد ولم يتبقَ لي أحدا في هذه الدنيا سوى هذا الكوب من القهوة والنظر من الشرفة."

مدام علياء: "الحال من بعضه يا أستاذ أحمد ها أنا عدت وحيدة يعتصرني ألم الفراق أيضًا، لقد رحل عني زوجي وأولادي في حادث أودى بحياتهم، وقد عدت بعد أن أصبحت حياتي في الغربة لا تحتمل دونهم".

-أحمد: هل تسمحين لي بدعوتك على فنجان من القهوة؟

علياء:. "الآن؟"

-أحمد: "نعم، هل يوجد ما يمنع؟"

يتجه أحمد إلى باب الشقة مبتهجًا ليفتحه أخيراً لقد وفد إليه زائر: "تفضلي يا مدام علياء دقائق وأعد لك فنجان القهوة".

يدخل أحمد إلى مطبخه مسرعًا ويجهز القهوة، ويخرج ليضعها أمام مدام علياء وهي تبتسم له ابتسامة هادئة ممتنة له وهي تقول له، إن شرفتكم كما هي ممتلئة بالورود كما تركتها في السابق..

ليرد عليها أحمد: كما تعلمين تلك الورود هي المتبقية لي من رائحة زوجتي، فقد كانت تحبها وتعتني بها وأنا على عهدي لها أراعها وأهتم بها.

ظل أحمد ومدام علياء يتسامران حتى مطلع الفجر، لقد غمرته سعادة لم يعهدها من قبل.

إنها أسعد ليلة في حياته، لقد خرج من عزلته التي عاناها طويلاً بعد وفاة زوجته وللمرة الأولى يشعر بأنه يتحدث مع أحد منذ مدة طويلة فقد أرهقه الصمت المطبق.

لقد وعدته مدام علياء أن تكرر زيارتها له مرة أخرى، وللمرة الأولى يشعر بطاقة من السعادة تسري داخله، ليخرج ويتسوق بعض الاحتياجات له، ويدخل محل الورود؛ ليشتري باقة من الورد ليقدمها إلى مدام علياء امتنانًا منه على هذا الوقت، الذي منحته له ليلة الأمس.

ها هو ينتظرها داخل شرفته، ينظر إلى باب شرفتها، إنها لم تخرج هذه الليلة حتى الآن ربما نامت أو أرهقت، فقد تسامرنا طويلاً ليلة أمس، ولكن لقد قاربنا منتصف الليل أو ربما حدث لها مكروه. 

أنا لن أنتظر سوف أذهب وأطرق عليها باب شقتها.

خرج أحمد من شقته وظل يطرق على باب مدام علياء دون رد، حتى وجد حارس العقار أمامه يسأله "ماذا تريد يا أستاذ أحمد؟"

أحمد:

-أريد أن أطمئن على مدام علياء.

ليرد الحارس مندهشًا... مدام علياء مين يا أستاذ أحمد؟ الست علياء هي وزوجها وأولادها في ذمة الله من (٥) سنوات، منذ ذلك الحادث الذي أودى بحياتهم!

ينفعل أحمد في وجه الحارس قائلًا: "أنت بتقول إيه يعني أنا مجنون؟ مدام علياء كانت معايا أمس وجلسنا نتسامر حتى الفجر".

الحارس ينظر إلى أستاذ أحمد نظرة تحمل الإشفاق والعطف. 

يصرخ أحمد في وجه الحارس: "أنت فاكرينى مجنون تعالى معي سوف أجعلك تشاهد آثار ليلة أمس".

ها هو الكرسي الذي كانت تجلس عليه وها هو كوب قهوتها الذي تناولته بالأمس معي، وقالت لي إنها لم تشرب قهوة بهذا المذاق منذ زمن.

ينظر الحارس إلى كوب القهوة متعجبًا ومندهشًا، ليخبر الأستاذ أحمد أن كوب القهوة بالفعل موجود، ولكنه ممتلئ بالقهوة عند آخره ولم يشرب منه أحد.

يصمت أحمد برهة وينظر إلى الكوب في ذهول ويحدث نفسه ويتمتم ببعض الكلمات غير المفهومة، ثم ينفعل على الحارس ليدفعه خارج الشقة، ليغلق الباب خلفه ويعود إلى الشرفة ليلقي بجسده المنهك على المقعد. 

تنهمر دموعه لكنه سريعاً ما يجففها بيده ثم يأخذ نفساً عميقاً ويعود إلى هدوئه وقد علت وجنتاه ابتسامة ليتحدث إلى مدام علياء ويسألها: هل أعجبك الورد الذي أحضرته لك اليوم؟

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

الله المستعان.ما أصعب الوحدة
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

نعم ان للوحدة مرارتها..؟شكرا لمروركم الجميل
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة