قد تكون تلك الأرض في أي مكان، وقد يكون الزمن في قرن ماضٍ أو حاضر أو قرن آتٍ.
مدينة السكارى
هنا اللهو والعربدة والحرية والتحرر، هنا لا قوانين، لا قواعد، لا عادات، لا تقاليد، لا أديان، لا أخلاق.
مرحبًا بك..
سوف تنال مبتغاك، سوف تنعم بالرضا، أنت زبون مميز إن كنت لا تعلم.
القاهرة ١٩٥٠، صباح يوم الأحد ٧ يناير
سمر..
انتهت سمر من عملها في الكازينو طوال الليل، خرجت مرتدية ملابسها الثقيلة التي فقدتها طوال الليل في عملها، وذهبت نحو الطريق إلى محطة السكة الحديد في شرود، آثار الثمالة لم تذهب بعد، لم تتخلص من السكر الذي يساعدها على ترك جسدها للإنجليز ليفعلوا ما يحلو لهم مقابل ما يعطونه لصاحب الكازينو من أموال، لقد كرهت نفسها، كرهت جسدها، كرهت الفقر والوطن والاحتلال... لم يعد الخمر كافيًا لتقبل تلك الحياة.
قررت أن تلقي بنفسها تحت عجلات القطار الحديدية، لتنتهي المأساة إلى الأبد.
سامى..
خرج من شقة صديقه بعد ليلة طويلة من السهر والسكر والعربدة، يحاول أن يتمالك نفسه وهو يمشي في الشارع بشرود، لا يريد أن يتذكر زوجته التي اغتصبها جندي إنجليزي ولم يستطع الانتقام ولا الحديث ولا الشكوى، ولا يستطيع تحمُّل نظرات زوجته في المنزل، لا يستطيع أن يعيش معها أو يجلس بجوارها، فهو يشعر بأنه فقد رجولته وكرامته.
لا سبيل له سوى أن يسكر وينتشي، ويذهب إلى عمله كل صباح في محطة السكة الحديد ليتلقى الأوامر من الجندي الإنجليزي نفسه الذي اغتصب زوجته، يقرر في قرارة نفسه أن اليوم هو آخر أيامه في تلك الحياة البائسة.
سوف يقتل «مارك» الجندي الإنجليزي ثم يلقي بنفسه بعد ذلك تحت عجلات القطار الحديدية.
عبد الحفيظ..
الفلاح البسيط، الذي أجبره الجنود الإنجليز على ترك بيته وقريته وزوجته وأمه وأولاده ومغادرة القرية وإلا سوف يفعلون به ما فعلوه بزوجته وأمه أمام عينيه وأمام أولاده...
استيقظ عبد الحفيظ على صوت صافرة القطار المتجه نحو محطة السكة الحديد في القاهرة. نظر عبد الحفيظ من شباك القطار يشاهد البنايات وشوارع القاهرة، ثم يخرج من حقيبته زجاجة خمر يتجرع منها في نهم شديد، وكأنه قد تذكر من هو، وأين هو...
توقف القطار، خرج عبد الحفيظ مترنحًا، يقف أمام القطار، يفكر في أمر ما وهو يبكي بشدة ويتجرع من زجاجة الخمر التي قد أهداها له أحد الجنود الإنجليز بسخرية منه قبل أن يُطرد.
لا يُجدي شرب الخمر في محو الأمر من عقل عبد الحفيظ، لا يستطيع تحمل الأمر، يفكر الآن في أن يضع رأسه تحت عجلات القطار لينهي تلك المأساة.
بهية..
الفتاة الجامعية، الملتزمة، المجتهدة، الجميلة.
اختطفها أحدهم داخل سيارة جيب إنجليزية عسكرية، واغتصبها وتركها على ناصية الطريق، وبجوارها بقايا ملابسها وبقايا زجاجة خمر كان قد نساها.
نظرت بهية لنفسها، وبكت.
بكت على كل شيء، بكت على ما حدث وما يحدث وما سوف يحدث.
أمسكت بالخمر وتجرعته للمرة الأولى في حياتها، فقدت قدرتها على الحديث، على الظهور، على تقبل حياتها بعد الآن، سمعت صافرة القطار، وقررت...
تشابهت قصص الأربعة، تشابهت المأساة، وتجمعوا عند حافة نقطة الرحيل وهم سكارى، يبكون.
فعلها سامى، قتل مارك، طعنه بخنجر في قلبه حتى تأكد من موته، وسرق زجاجة الخمر من مكتب مارك، وأسرع نحو حافة السكة الحديد.
كان الرصيف مزدحمًا، والقطار يقترب.
الغريب أن الجميع يمسكون بزجاجات خمر، ما بين شاب وعجوز وفتاة ومسنة وفلاح وبيه، الجميع سكارى، الجميع ينتظرون القطار.
ولكن...
قبل أن يقفز أحدهم، قفز الجميع، كل الازدحام، وقف الجميع أمام القطار، وتبقى على الرصيف سمر وبهية وسامى وعبد الحفيظ فقط.
توقف القطار أمام كل هذا الازدحام القادر على صد تقدمه...
نظروا لبعضهم بدهشة، كيف يحدث ذلك؟!
هل كل هؤلاء قصصهم متشابهة؟
هل كل هؤلاء سكارى؟
من سليم إذن؟
اقترب الجنود الإنجليز المسلحون من المكان في مطاردة سامى، كسر سامى زجاجة الخمر التي بيديه، طفح الكيل به، لا أمل، حتى في الموت بسلام، وهاجم سامى الجنود بعنق الزجاجة، ومن خلفه دوت صرخة مكبوتة، صرخة السكارى تعلن أن وقت المقاومة بدأ.
صرخة الانتقام، صرخة الأرملة، صرخة المغتصبة، صرخة المطرود، صرخة العاشق، صرخة المقتول...
صرخة وطن، وطن أبى أن يكون مدينة للسكارى، تلك الأرض لا تصلح للعربدة والفجور، تلك الأرض مقدسة، حتى لو رفض العالم.
تلك الأرض ترفض المجون، الانحلال، التحرر، القيود، الفساد، الزل، الضعف.
تلك الأرض لا تصلح وطنًا للسكارى.
انتهى الاحتلال، استقلت القاهرة، رحل السكارى إلى أرضهم، إلى موطنهم، فشل مخططهم في نشر فكرهم في أرضنا.
والآن..
إن أردت التنعم في أرض السكارى، فأنت تعلم الطريق جيدًا، سوف يخدعونك أنهم يمثلون العالم المثالي، ينشرون الحضارة والثقافة والفنون، يدعمون الحرية والسلام، يحافظون على العرق بدون عنصرية.
كاذبون..
لا تصدق ذلك..
لا ينبغي لأرض السكارى أن تلتزم بدين أو عرف أو أخلاق يا عزيزي..
لم ينشروا سوى الوحشية والفجور والعربدة.
لا يدعمون إلا الاستعمار والخراب.
لا يحافظون إلا على عرقهم فقط، ويدعمون بعضهم بالسلاح والعتاد لقتل وإبادة من سواهم.
أرض السكارى..
لا دين هناك، لا أخلاق.
لا قواعد، لا قوانين.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.