قصة "ما راحت إلا وتركت كل شيء".. قصص قصيرة

سبق أن راحت رحلتها الأولى في طريق البحث عن الحياة التي كانت تريدها دائمًا. وهي أن تعيش حياةً كريمة محققةً أهدافها وأحلامها في مكان يحب أن يعمل من أجل الإنسانية.

ذات يوم كنا في مكاننا المعتاد نتحدث فيما بيننا عن تطور علاقتنا من خلسةٍ وبعدٍ إلى جماعٍ مدى الحياة، فقلتُ لها:

  • "عزيزتي ياسمين، ما رأيك بأن ننتقل بعلاقتنا لحياةٍ نهائية...؟"

نظرت إليَّ بغرابة ثم قالت:

  • "عزيزي؛ تعلم أني مولعة بك ولنَا ذكريات طويلة وقصص كثيرة معًا، لكنك تعلمُ أني أبحث عن حلمي أينما وجد ولن أقدم على أي علاقة جديَّة إلا بعد ما أحقق هدفي الذي كان ولا زال يرافقني منذ الأزل..."

نظرتُ إليها نظرةً تمنتُ بها لو انشقَّت الأرض لحظتها وابتلعتني على أن أخبرها بما جال في خاطري وما مدى جديتي في الأمر، وأني كرَّست حياتي لها دون أن أهتم لأحلامي ولا طموحاتي وأني جعلتُ كل شيءٍ ثانويًّا في حياتي جاعلًا منها كل أولوياتي.

قاطعت شرودي حين قالت:

  • "لا تحزن يا عزيزي، لم أكن أريد أن أضع طموحكَ أرضًا ولم أرغب في تحطيم أحلامكَ بأن نستمرَّ معًا، لكن يا عزيزي تعلمُ أن حاليًّا أولوياتي أن أجد هدفي الذي أعملُ عليه منذ سنواتٍ وأريد أن أصل له، فلا تجعل كل أعمالي تتبخر كأن لم تكن أصلًا، وساعدني بصبركَ لأحقق أحلامي وحينها سنجتمع معًا للأبد..."

تعلم أن كلماتها لم تؤثر فيَّ أبدًا بل كانت جمرًا على قلبي، لقد كرَّستُ حياتي لأكون رفيقًا لها ومعها، لكنها نظرت إليَّ بنظرة استغرابٍ لطلبٍ ليس صعبًا ويمكنها أن تعمل على أحلامها وهي معي. قلت لها بخيبة بابتسامةٍ ساخرة:

  • "لا عليكِ عزيزتي، وفقكِ الله في الوصول لأحلامك التي كانت أولى مني دائمًا التي شغلتكِ عني دون أن تدركي أن إنسانًا هنا ضحى من أجلكِ بكلّ ما ملك في دنياه..."

دون أن تجعلها متحدثةً أو معلقةً على آخر كلماتي، انصرفتُ غاضبًا دون أن ألتفتَ خلفي. كنتُ أعلم أنه آخر لقاءٍ لنا وأني جرحتُ قلبها الرقيق لما قلته، لكنني كنتُ أعلم أنها مصرّةً على تحقيق أحلامها أولًا قبل أن تقدم على الزواج بي، فلم أستطع تغيير رأيها ولا أن أشرح لها أني أريدها قريبةً مني لأكون من يساعدها أولًا، للأسف لم تفهم مقصدي وغاياتي...

مرَّت على أيامها سنين لم نتحدث فيها ولم نلتقي. كانت تلك السنين كلها مكرسةً لنسيانها والابتعاد عن الذكريات التي عشتها رفقتهَا كي لا أقع في فخّ الكآبة والحزن، وحاولت أن أشغل نفسي بأحلامي السابقة التي كنتُ قد تخليتُ عنها من أجلها.

لكن في أحد الأيام وما شاءت الأقدار إلا أن تلاقينا مجددًا، كنتُ جالسًا في أحد المقاهي التي اعتدتُ أن أكون بها في وقت فراغي رفقة حاسوبي وقلمي الذي كان صديقًا لسنين عدة، وإذا بي أبصرها تتحدث إلى النادل. حاولتُ أن أخفي وجهي بشيءٍ ما كي لا تراني جالسًا في المقهى، لكنها رأتني واتجهت صوبي وكأن شيئًا لم يحدث قبل سنين. فنظرت إليَّ ثم قالت:

  • "يا للقدر، أهلا يا سعيد، كيف حالك؟ لم أتوقع وجودك هنا..."

أجبتها بصوتٍ مبحوح:

  • "ي... ي... ياسمين؛ أهذهِ أنتِ...؟"

نظرت إليَّ ثم ابتسمت وقالت:

  • "أهٍ عليكَ يا سعيد، ألم تتذكرني؟ هل نسيتني بهذه السرعة...؟"

أجبتها مبعدًا الشبهات عني وأني لم أستطع نسيانها أبدًا بل كانت مصاحبةً ذاكرتي طوال السنوات السابقة:

  • "أيعقل أن أنساكِ يا ياسمين، كنتُ فقط أريد التأكد، تعلمين أننا لم نلتقِ لسنواتٍ طوال..."

دار فيما بيننا حديثٌ مطول ساعات، وقد أخبرتني أنها قد غادرت البلد قبل سبع سنوات وأن هذه أول زيارة لها منذ سنواتٍ مضت، وأن الأمر في تحقيق هدفها هنا كان صعبًا جدًا وكيف عانت للوصول لهدفها...

صراحة كنت أعلم أنها لو بقيت في هذا البلد لن تحقق شيئًا من طموحاتها، وأنهُ سيصعبُ عليها الأمر. سألتها قليلًا عن حياتها في الغربة، وأخبرتني قائلةً:

  • "أهٍ يا سعيد ما أخبرك به، كنتَ محقًا فيما كنتَ تخبرني به، لو لم أستمع لكلماتك وهاجرت لما وصلتُ لحلمي الذي فرق بيننا، وجعلنا غريبين."

ثم أضافت:

  • "للوهلة الأولى حينما وصلتُ للمهجر واجهتُ بعض الصعاب، لكن حمدًا لله كنتُ كلما أواجهُ مشكلةً أعودُ بذاكرتي لما علَّمتني إيَّاه في سنواتنا معًا فأجد حل كل شيء، وأول ما قمتُ به هو أني بحثتُ عن الاستقرار وبدأتُ العمل على تحقيقِ هدفي، والحمد لله ها أنا الآن محققةً هدفي وصارت لي أحلامًا مغايرة أعمل عليها..."

ثم أضافت:

  • "ماذا عنك يا سعيد، ما الذي فعلتهُ في وقت فراقنا...؟"

ما الذي تريدين أن تعلميه عني؟ لقد صرتُ ما أنا وما ترينني عليه: شخصًا كاتبًا مؤلفًا شاعرًا بقلمي الذي كنتُ قد تخليتُ عنهُ لأجلك، فخنتِ من أجل حلمكِ فعدتُ إليه فاستقبلني وعلونا معًا دونك...

نظرتُ إليها ثم قلتُ لها بابتسامة:

  • "صرتُ ما ترينني عليه..."

طال حديثنا معًا عمّا حققتهُ في بلاد المهجر وكيف صارت حياتها عكس ما كانت عليه هنا، وبعد ساعات من الدردشة قلتُ لها:

  • "اعذريني يا ياسمين، لكن عليَّ أن أغادر فلي بعض الأعمال عليَّ قضاؤها وقد انتهت مدّة راحتي..."

طلبت مني أن توصلني حيث أريد الذهاب، لكن قابلتُ طلبها بالرفض مبررًا أن مكان عملي قريبٌ من المقهى. لكنها طلبت لقاءً جديدًا مرة أخرى، فقلت:

  • "إن شاء الله..."

فودعتها ثم انصرفتُ متجهًا نحو مقر عملي الذي كان يبعدُ عن المقهى بشارعين، لكن المشكل أن لقائي بها أعاد ذكريات الزمنِ الذي عشتهُ رفقتها. شردتُ في التفكيرِ بها، وكيف أنها رفضت طلبًا طلبته منها!

مرت الأيام والأيام على حالها المعتاد، وأنا أحاول تجاهل مكان اللقاء دون أن نلتقي مجددًا، وأحاول ألا ألتقي بها كي لا أعود ما كنتُ عليه سابقًا عاشقًا مهووسًا بها...

لكن القدر إن قال كلمةً فلن تفلت مما قدّمهُ. وأنا أسيرُ في الشاطئ إذ بي أصادفها هناك للمرة الثانية. حاولتُ أن أخفي نفسي بين الجموع هناك علّها لا تراني، لكن دون جدوى فقد أبصرتني، فنادت عليّ:

  • "سعيد... سعيد!"

لم أرغب في أن أحرجها وأضع نفسي مكان الأهبل وأروح دون أن أجيبها، فأشرتُ لها ثم توجهتُ إليها ملقيًا التحية. ثم قالت:

  • "ما بالكَ يا هذا، لأيام وأنا آتي للمقهى، لكنني لم أجدك. ظننتُ أنكَ لا تريد لقائي...!"

حاولتُ التبرير بأنني كنتُ منشغلًا، وذلك ما جعلني ألا آتي للمقهى في الأيام الأخيرة، لكن حقيقة الأمر أني كنتُ أبتعدُ عنها ولا أريد لقاءها...

تحدثنا مطولًا حتى نسيتُ النظر إلى الساعة. كنا نتحدث عن أيامنا، عن الأعوام التي كنا فيها معًا...

لم أكن أعلم مقصدها من استرجاعِ الذكريات وما غايتها.

هل كانت تريد أن نعود لنكون معًا؟

أم أنها تحنُّ لتلك الأوقات...؟

لكن الحقيقة التي استنتجتها من كلماتها كانت أنها ندمت على الفراق وعلى البعد. كانت غايتها الحقيقية وشغفها الذي لم تكن تعرفهُ حينها هو وجودنا معًا. لكن فات أوانهُ وصارت مشاعرُ كلينا محطمةً دون أن تجد طريقًا.

افترقنا، فراحت هي لمنزلها الذي تقيم به، ورحت أنا نحو منزلي. في الطريق كنتُ أفكِّر بها كثيرًا. كلما حاولت أن أفكر في شيءٍ مغاير كانت هي ما تحومُ في عقلي. لا أدري هل عادت المشاعرُ من جديد؟ أم أنهُ مجردُ هوسٍ عابرٍ وسينتهي؟

كل ما كنتُ أعرفهُ أنها ليست لي، ولا القدرُ جمع بيننا لنعود كسابقِ عهدنا، بل كان لقاءنا هو أن نعلم أنهُ لو بقينا معًا لما أقدم أي منا نحو أحلامه وما صار ما هو عليه الآن.

صرتُ أنا سيدًا في طريقي الذي تخليتُ عنه من أجلها، وصارت هي ما أرادت وتخلت عني من أجلهِ. رغم السنين التي أمضيناها معًا، لكن نصيبَ كل واحدٍ منا كان فراقًا.

قيل:

"أليتَ الشباب عاد أن عاودَ
رسالتهُ المعتادة،
وبين أن اللا شيء هو شيءٌ ذاتًا
فلا العلاقاتُ كماليةً،
ولا النهايةَ أن نكون معًا
فطريقُ الهدفِ هو التمامُ نجاحًا
وأن تعيش الحلمَ حقيقةً عملًا.
أليتَ ما مات الشعورُ دفئًا
أليتَ النفس غارة علينا فراقًا
فما نحن إلا رسالةً تحدثُ نهايةً"
...

وإن لم تكن نهايةَ لقانا جمعًا، لكني علمتُ أنه لولا فراقنا لما وصل أيٌّ منا لما طمح إليه. كان القدرُ منصفًا في أن يسير كلٌّ منا نحو هدفهِ ونحو غايتهِ التي ولد من أجلها.

لقد انفطر قلبي حقًّا لحظة الفراق، لكنني داويتُ الفراقَ بما تخليتُ عنه: حلمي وهدفي في الحياة. كان ترياقًا لآلامي وأحزاني، وهي وجدت ذاتها في هدفها وسارت نحوهُ قابضةً على روحها ومشاعرها...

بنى كلٌّ منا طريقهُ وحياتهُ ورغبتهُ، وحقق أحلامهُ.

لكن بقيت القصة غير مكتملة. فلم يكن للقدر رأيٌ في أن نجتمع. فقد كنتُ أحاول دومًا تجنبها، مع أني كنتُ أرى أنها تريد أن نعود مجددًا. تجاهلتها مرارًا وتكرارًا، فملت من إظهار اشتياقها وفهمت أنهُ لا جدوى من عودتنا معًا.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة