قصة «ليلة في بيت العائلة».. قصة قصيرة

شددت بطانيتي على كتفي، مصطحبًا زوادتي وأدواتي القهرية للمبيت الدوري عند والدي. تفاجأت بتغيير تشكيلات النوم هذه الليلة؛ والدي في غرفته، وأمي وفؤادها الصغير في الصالة. لم أدرك هذه الخريطة إلا بعد إشعال الضوء، فالظلام دامس لا أكاد أرى فيه موضع قدمي.

أمي -في خبرتي المتواضعة بها- لا تحب الضوء. كنت قد استرقت السمع ليلة الأمس عند صعودي درج بيتي، فسمعت نقاشها مع أخي الأكبر حول إطفاء ضوء الصالة وإشعال ضوء المطبخ بدلًا منه، ومدى تأثير ذلك في وضع أبي الصحي، إذ إن الرؤية الضعيفة قد تعثر خطاه.

الآن، الساعة تشير إلى الحادية عشرة. أمي نائمة، وفؤادها الصغير يقلب هاتفه كأنه رقيب الغفر وقت الحراسة. لم أجد سبيلًا لمناقشة أمي في موضوع الضوء، فقد تعثرت وأنا أرتب فراشي، فكيف يصنع ذاك الشيخ الكبير في دياجير هذه الليلة؟

دقَّت الحيرة أبواب رأسي وتربَّعت في شعوري، فماذا أفعل؟ أأرضي أبي الذي يتكئ على عكازته ليقضي حاجته، أم أمي التي لا ينسجم نومها مع الضوء؟

تقلَّبتْ بي الأفكار حتى خطرت لي فكرتان:

أولاهما: أشعلت الضوء الخارجي، فرأيت من فراشي نورًا ضعيفًا، لا بأس به، مع أني أدرك مغبة هذا الفعل المكروه لدى والدي، فالضوء الخارجي للحاجة فقط.

والثانية: بعد أن ينتصف الليل، وبعد أن تتمكن النومة السابعة من جسد أمي، أنقضُّ على الضوء وأشعله نصرة لضعيفيْ البصر اللذين حُكم عليهما بالمكوث في الظلام الدامس هذه الليلة.

اليوم، أشعر في راحة الفراش بغير المعتاد.

اختلفت فراشتي، واختلف موقع رأسي. هنا ينام الناس بسرعة، لا يقلقون كثيرًا، لا تهمهم تحليلات الصحافة ونظرية المؤامرة، لا يعشقون الشاشات، ولا هم مولعون بوسائل التواصل الاجتماعي، وكأن هذه الحقبة لا تعنيهم.

ما زالوا يعيشون في عالم الخيام الذي ما فارق مخيلتهم يومًا. يقررون النوم وكأن النوم آلة يطفئها زر أحمر، ينسابون معه كما ينساب التردد في الأثير. كيف هي أحلامهم؟ ما حساباتهم قبل النوم؟ أيقلبون مثلنا دفاتر المستقبل والحاضر ويندبون مثلنا ماضينا المشوَّه؟ لا لا، أعتقد أن الوضع مغاير، فعادات النوم لديهم للراحة، وهذه العادات لا بد لها من السيطرة على جوانحهم.

أشعلت سيجارتي الأولى جالسًا في الصالة، والهدوء قاسٍ. صوت الثلاجة ما زال يدوِّي في أذني، وفؤاد أمي الصغير هجع. لا شيء مستيقظ سواي وحواس البيت وهاتفي الذي يكتب.

شد النوم زمامه ورحل، وأبقاني أصارع زفير النائمين من حولي، وكأن سبات الكهف زار هذه المنطقة. طفل صغير، وشيخ، وعجوز، وكاتب هذا النص… هم الساكنون في هذا المكان.

هدوء، مع قليل من الأصوات المترامية هنا وهناك… صوت الثلاجة، طنين الأذن، احتكاك الأغطية مع تقلبات النائمين. لقد ساد الظلام، واشتعلت في رأسي ذكريات المكان: طفولة، ومراهقة، ورشد… ما اشتد العود إلا بعد لين، وما طُفئ الخوف إلا بصوت أمي عندما يجتاحني القلق.

أتذكَّر كلماتها وطمأنتها السحرية: "لا تقلق بني، استعذ بالله من الشيطان ونم".

كم كانت تلك الكلمات تعيد التوازن النفسي لطفل أرعبه قلق عابر! وأي أمان دافئ حين تعانق يداها رأسي!

أشعلت سيجارة بعد صخب ذكرياتي في فضاء هذا البيت. أحدق في جدرانه وكأنها تخاطبني، تراقبني، تشدني نحوها… يبدو حالها غير سعيد، على الرغْم من البياض الذي يكسوها، وكأنها قلقة، لا تحب النوم وسط النيام، كطفل يخشى أصوات شهيق إخوته عندما يكون بينهم.

تقلَّبت في فراشي الجديد، ولكل جديد وهجه. كم يتعبني فراق الروتين، واعتياد ما يخرج عنه. كم تشدني تلك العادات القديمة، كطريقة أمي في ترتيب المكان، وعطف أبي حين يناديني بصوته المتقطع، كأنه يخشى أن يوقظ فيَّ قلقًا.

ليلة غريبة في المنزل الذي عرفته بكل زواياه… ولكن القلوب تتغير، والأماكن تحمل في طياتها أثر الوقت والذكرى. هل تشعر الجدران بالفقد؟ هل يبكي المكان على أصواتنا التي تلاشت؟

سيطوي الليل صفحته كعادته، وسيبزغ الفجر من بين كوات النافذة، وستتغير الأصوات والأشياء… وسأبقى أتذكَّر كيف كان المكان يضمُّنا في كفه كأنه يخبِّئنا من قسوة العالم.

هذا المنزل… يبقى وطنًا، وإن غيرت الأيام ملامحه.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة
بقلم ليلى الشبراوى عبد الحكيم
بقلم ليلى الشبراوى عبد الحكيم
بقلم عائشة عادل ابوسريع
بقلم أسماء عوض التونسي
بقلم ليلى الشبراوى عبد الحكيم