شفشاون أو "الجوهرة الزرقاء"، مدينة جبلية واقعة بسلسلة جبال الريف بشمال غرب المغرب الأقصى. تأسست نحو 1471، لإيواء مسلمي الأندلس بعد أن طردهم الإسبان. فقد كانت بمثابة قلعة للمجاهدين ضد الاستعمار. هناك ازدان فراش بيت عائلة "بخات" بمولود ذكر، يوم العاشر من يناير سنة 1960 ببيت الجدة "صفية" من ابنها "عبد السلام" وزوجته "فطوم".
فقد كان حينها يوجد على تخوم الحدود الجزائرية، يعمل جنديًّا بجيش التحرير المغربي ضد الاستعمار الفرنسي. فراسلته "صفية" عبر برقية لتزف له خبر المولود المنتظر، وقد اختارت له اسم "محمد"، لكن الأب لم يتمكن من حضور حفل اليوم السابع بعد الولادة، كما هي العادة لدى الشعوب العربية بجل أطيافها الاجتماعية.
كان "محمد" المولود البكر للعائلتين من الأب والأم كذلك، وقد اختير اسمه تيمنًا باسم جده الأبوي، الذي كان هو الآخر قد استشهد مقاومًا بصفوف المقاومة المغربية ضد الاستعمار الإسباني، بمدينة "طنجة" الدولية -مدينة البوغاز- حسب برتوكول طنجة سنة 1923، فحينها كانت قد صُنِّفت "طنجة" منطقة دولية، تحت إدارة حماية مشتركة بين المملكة المتحدة وفرنسا وإسبانيا. في حين بعد انضمت البرتغال وبلجيكا وهولندا والسويد والولايات المتحدة الأمريكية.
ودامت هذه الحماية تحت الرعاية الفرنسية إلى سنة 1956، وفي السنة نفسها يوم 18 نوفمبر احتفلت المملكة المغربية بعيد استقلالها، وهو استقلال عن الحماية الإسبانية والحماية الفرنسية معًا.
كان الجد "محمد" بدويًّا غيورًا على موطنه ضد الاستعمار أيًّا كان، عمل بشتى القطاعات والمهن، لكنه احترف أخيرًا "المقاومة" في وجه أي نوع من الاستبداد الغاشم. كانت نزعته الثورية تسيطر على كيانه؛ لأنه كان يكره وجود المحتل الإسباني على أرضه. فحينما هاجر مصحوبًا بزوجته الجدة "صفية" كان في عقده الرابع.
أما هي فكانت تصغره كثيرًا سنًّا وحجمًا. وقطنا بمنطقة جامع المقرع، التابع آنذاك لحماية المستعمر الإنجليزي بـ(عروس الشمال) "طنجة"، لمدة تناهز اثنتي عشرة سنة. وهذه الأخيرة، مسقط رأس الرحالة والجغرافي المغربي "ابن بطوطة" سنة 1324.
تحكي الجدة أنها لم تدر ما كانت طبيعة عمل زوجها، إلا أنه كان غالبًا ما يترك البيت فجرًا ولا يعود إلى أن يسدل الليل ستاره. وأنها ما زالت تتذكر ذاك الحدث الذي جرى لها معه على حين غرة، ودون أن يسمح لها بأن تبدي رأيها في وجهة زوجها الذي كان على أهبة الترحال في أقرب وقت ممكن آنذاك. فبعد أن كان قد رتب أموره، تسلل ليلًا ليتسنى له أن يأخذ عروسه من بيت أهلها، حيث كانت تقيم بقرية "القلة" التابعة لمدينة "القصر الكبير".
وذلك هربًا من أتباع المستعمر الإسباني الذي كان قد أهدر دمه. فما كان عليه إلا أن ينجو من قبضتهم ما إن أتيحت له الفرصة بذلك، متوجهًا إلى "طنجة" المدينة الدولية، التي كانت آنذاك ملجأ لكل مَن ضاقت به أحواله؛ لأنها كانت تنفرد بنظام سياسي متميز كما ورد آنفًا.
ما جعلها أيضًا تستقطب ثلة من الأعلام في مجالات متنوعة المشارب، فقد نالت شهرة عالمية بين الأدباء وفناني العالم المعاصر في أوج إشعاعها، كونها عاصمة للدبلوماسية ومكانًا لالتقاء ثقافة الغرب بسحر الشرق، هي "مدينة الحلم" كما وصفها الكاتب الأمريكي "بول بولز"، وصارت إقامة دائمة لكثير من الشخصيات العالمية مثل "وليام بوروز" والرسام الفرنسي "أوجين دولاكروا" و"هنري ماتيس" و"جان جينيه" و"تينيسي وليامز" و"خوان غيوتيصولو" و"محمد شكري"، وغيرهم من كبار المبدعين والسياسيين من كل بقاع المعمورة.
في الواقع كان الجد "محمد" شخصًا ذا سمعة طيبة بين ذويه ورفاقه، ما جعل صيته في مجال المقاومة ضد أي نوع من أنواع الاستبداد، فكان اسمه مدويًّا على مسامع العدو. لقَّبوه بالفاسي نسبة لمدينة "فاس"؛ لأنه كان -رحمه الله- أحد الفدائيين الذين كانوا مصدر إطلاق شرارة الاحتجاجات، للمطالبة بإنهاء الاحتلال وإحباط المخططات الاستعمارية آنذاك. والتابع للحركة الوطنية المغربية، فقد شارك في المقاومة الاستعمارية وأسهم في معارك الاستقلال والتحرر في المغرب.
وكان يجتمع برفاقه، طلاب علم بجامعة "القرويين" الأولى من نوعها في التاريخ 877م. وذلك من حين لآخر، تحت إشراف شيوخ وعلماء في مجال الفقه والشريعة. هناك بزغت نواة حس المقاومة ضد المستعمر. تمثل "فاس" عاصمة أول دولة إسلامية سنة 132 هجرية بالمغرب الأقصى، وهي ثاني دولة إسلامية مستقلة عن الخلافة الإسلامية بعد دولة الأمويين في الأندلس.
ومرت السنون إلى أن عاد الجد إلى بيته في أحد الأيام مصابًا بجروح بليغة أودت بحياته خلال مدة قصيرة جدًّا، تاركًا للجدة طفلهما الوحيد "عبد السلام" الذي كان لم يتجاوز بعد العاشرة من عمره، الأمر الذي دفع الجدة إلى أن تلملم أغراضها مصحوبة بابنها اليتيم، بعدما دفنا الجد "محمد" بمقبرة "الجبل الكبير"، توجها عائدين إلى قريتها، حيث كان يقيم الأخ الأكبر للجدة "صفية"، أما زوجها المرحوم فقد كان ينتمي إلى قبيلة بني "يسف"، وهو مدشر من قرى مدينة "العرائش".
وفي أحد الأيام بعد عودتها، تفاجأ أخو الجدة بأن صديقًا له قد طلبها للزواج. فما كان للأرملة إلا أن تقبل العرض، خاصة وأنها تعبت من أعباء الحياة حينها، ثم إنها أرادت لابنها أن يكبر تحت كنف أب حتى لا يحرم من وجود وحماية أبوية منذ طفولته.
وهكذا كان، فبعد أيام معدودة، رحلت "صفية" وابنها "عبد السلام" صحبة "العياشي" -الزوج الثاني- إلى مقر سكناه بمدينة "شفشاون"، حيث كان يعمل بمصلحة التموين. حينذاك، كان العالم بأسره يشهد مخاض الحرب العالمية الثانية، وتبعات مخلفات الحرب وكذا تجليات سلبياتها على كل المستويات النفسية منها والاجتماعية والاقتصادية. وخاصة، على مستعمرات الدول التي شاركت من قريب أو بعيد بتلك الحرب المدمرة.
ومرت الأيام، فصار لـ"عبد السلام" أخوان وأختان غير أشقاء، ومع أن زوج أمه كان يعامله كأحد أبنائه، فإن هذا الأخير لم يتمكن من متابعة تعليمه الأساسي، ليتطوع جنديًّا بجيش التحرير، فهو لم يكن يبلغ حينها عشرين سنة، بعد أن عمل بعدة مهن متاحة آنذاك.
وكأن التاريخ يعيد نفسه، فقد وجد الابن ضالته على مسار أبيه. فبعد مدة التدريب العسكري، نقل مع ثلة من الدفعة نفسها إلى حدود مدينة "وجدة" عاصمة المغرب الشرقي، بجوار الحدود الدولة الجزائرية لمناهضة الاستعمار الفرنسي.
خاصة وأنه حينها كانت الجارة الشقيقة تسعى للتحرر من المستعمر المذكور، بعد احتلاله لها لمدة تفوق قرنًا وثلاثًا وثلاثين سنة. فكان الجنود المغاربة على الحدود الجيوسياسية يدعمون استقلالها بكل الوسائل المتاحة من أسلحة وتدرب في الميدان الحربي على أرض "المغرب" ضد المستعمر الفرنسي الغاشم.
هكذا، وفي سنة 1961 بعد أشهر معدودة منها، انتقل "عبد السلام" وزوجته "فطوم" ورضيعهما "محمد " إلى مدينة "وجدة" للاستقرار بها. وبعد سنوات صار لـ"محمد" ثلاث أخوات، وكما جرت العادة، أنه عند كل عطلة صيفية تعودت الأسرة أن تعود لزيارة الجدة وأبنائها بمدينة "شفشاون"، خاصة بعدما تُوفي زوجها الثاني.
وخلال سنة 1968، بداية الموسم الدراسي، جاء الأب "عبد السلام" بخبر مفاجئ كالعادة، بانتقال مقر عمله إلى مدينة "القنيطرة". فما كان عليه إلا أن يعود مصحوبًا بزوجته وأطفالهما الأربعة، لكن هذه المرة كانت العودة إلى مسكن زوجته الثانية "أمينة" بالمدينة نفسها. ودون إشعار مسبق، كانت المفاجأة كالصاعقة بنسبة لـ "محمد" الطفل البكر، فقد ولج إحدى المدارس العمومية القريبة من الإقامة الجديدة، والتي بالكاد كانت تسع لشخصين فقط. إلا أن "فطوم" الأم.
قد كان الوقع عليها كطعنة في الظهر، فقد صارت تعاني بمرارة من الوضعية المزرية التي حلت بها وبأبنائها الصغار. إضافة لإهمال زوجها لها أكثر عقوبة نفسية في حقها. لم تتحمل المسكينة الصدمة، فما كان عليها إلا أن تهجر فلذات كبدها دون عودة خلال السنة ذاتها، بعد توديعهم بكل حرقة الفراق، عائدة إلى بيت أبيها بـ"شفشاون".
وهكذا صار بالبيت الجديد أمٌّ ثانية، عوض الأم البيولوجية لمدة ثلاث سنوات فقط، ثم غادرت هي الأخرى بدون أي تردد، لكثرة حالات الجدال والشنآن بينها وبين "عبد السلام" الأب، الذي لم يستطع تحمل رعاية أطفاله لوحده بعد فراقهما. وفي غضون أشهر معدودة، سارع للبحث عن من سيتحمل معه مسؤولية الحال الطارئ.
وفعلا، خلال العطلة الصيفية لسنة 1970، كان قد تزوج "فاطمة"، بدوية من نواحي مدينة "تطوان" فكانت بداية حقيقية لمعاناة قاسية على مستوى الأحوال النفسية للأطفال الأربعة وحتى الجسدية أحيانًا.
أما بالنسبة لـ "محمد" البكر، فقد كانت جل العقوبات الصادرة على يدي الأب تلبية لتحايل وكيد من زوجته الثالثة. أما أنواع الترهيب الذي كانت هذه الأخيرة تمارسه على البنات الثلاث، فكان غاية من الإذلال واستعمال اختلاف وسائل الضرب والتجريح اللفظي.
الأمر الذي كان يدفع بأخيهن بأن يتدخل لحمايتهن من ظلمها لهن. فكان العقاب الجسدي منتظرًا لا ريب فيه، والذي ينتج عنه أثر ندبات على جسد "محمد" الطفل، عند عودة الأب من عمله، وبدون أي استفسار أو مبرر كان.
ومرت الأيام بالنسبة للأطفال الأربعة، وكأنهم يعملون عبيدًا لدى مالكيهم في زمن الرق بسوق النخاسة؛ لأن الأب كان قاسي الطباع. ثم إنه لم يكن يعلم بما يحدث تحت سقف البيت عند غيابه عنه. ولهذا أيضًا، لم يكن ليرحم صغر سن ابنه البكر الوحيد. فكان عقابه له لأي سبب صادر كرد فعل ضده من طرف زوجته العنقاء.
كأن يأمره أحيانًا بأن يترك البيت ولو ليلًا. فقد كانت الليلة الأولى التي قضاها خارج البيت مرغمًا بأمر من والده دون تردد ولا رحمة، بإحدى ليالي خريف 1971. فكانت معاناة "محمد" مزدوجة؛ لأنه كان لا يتوقف عن التفكير بأحوال أخواته الصغار، لمَ يتحملن لوحدهن قساوة معاملة زوجة أبيهن، الذي لا يهمه إلا نفسه وأهواءها، وليأتي الطوفان من بعده؟! أما محنته، فقد ينساها للحظات.
لكنه سريعًا ما كان يستعد للبحث عن كيفية إيجاد حل لشأن مصيبة وجوده خارج البيت؟ وكيف سيتوجه في اليوم التالي إلى المدرسة؟ لأنه لم يكن يتخيل نفسه، منقطعًا عن الدراسة مهما كانت الأحوال ضد رغبته تلك.
والأهم من ذلك، أنه كان يفكر أكثر كيف سيقضي ليلة العقوبة أو بالأحرى على مدى الليالي التالية أحيانا؟ بدون معيل أو رحيم. وهكذا كان حاله من حين لآخر لأتفه الأسباب. وأما كيف كان يقضي ليلته، فتلك حكاية أخرى.
فقد كان كلما طُرد من البيت، الذي يوجد بالطابق الأول، أما المالكين فكانوا يقيمون بالطابق السفلي، ولحسن حظ "محمد" كان هناك الباب الخارجي للبناية. حيث كان الطفل المطرود ينام على إحدى عتبات الدرج، هذا إن كان الباب الرئيس مفتوحًا. وإلا فمدخل آخر لبناية أخرى.
وهكذا كان حاله عند كل عملية طرد من بيت الأب الذي لم يهمه أمر ابنه ولو مرة. أما بالنسبة لمزاولته الدراسة في مثل هاته الأحوال، فإنه كان ينتظر مغادرة الأب صباحًا لعمله، ليتمكن هو من أخذ محفظته من البيت بمساعدة أخواته خلسة. وبعد يوم أو أكثر، كان يزور أحد أصدقاء أبيه ليشفع له عند الأب حتى إن رضي هذا الأخير بوساطة صديقه، كان يسمح للابن البكر بأن يعود للبيت، محرومًا من بعض حقوقه كطفل قاصر.
وفي يوم من أيام فصل الصيف، كان "محمد" مصطحبًا بأبيه عائدين من محل "النجارة"، حيث كان يعمل الأب عند المساء عملًا ثانويًّا، يمتهنه ليحسِّن من أحواله المالية، خاصة حينما صار بالبيت خمس بنات. فكانت المفاجأة أنهما التقيا بأحد زملاء أبيه القدامى مصحوبًا هو الآخر بصنوه القاصر.
وهكذا، فبعدما تبادلا بعضًا من ذكرياتهما الماضية للحظات، بادر هذا الأخير بإخبار أبي "محمد" بأنه قد أعلن عن فتح لائحة تسجيل أبناء الجنود القاصرين لكي يستفيدوا من رحلات تخييم بدول المغرب العربي، التابعة للمديرية العامة للأعمال الاجتماعية تحت القيادة العامة للقوات المسلحة الملكية كما جرت العادة لكل سنة آنذاك.
فكان من حسنات هذا اللقاء، وبعد إلحاح وإصرار من صديق أبي "محمد" للسماح له بمصاحبة ابنه في تلك الرحلة. وأخيرًا عمت فرحة الطفلين وكأنهما فازا بجائزة ما. وهكذا كان، فبعدما تمت كل الإجراءات المطلوبة، سافرا على متن طائرة "بوينك 727" باتجاه دولة "الجزائر" الجارة الشرقية.
هناك، قضيا واحدًا وعشرين يومًا ما بين العاصمة "الجزائر" وولايات أخرى مجاورة لها. كانت تلك الرحلة الأولى لـ "محمد" فرصة نادرة ليكتشف ويتعرف على عوالم لم يكن ليحلم بتحقيقها وهو لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره حينها.
ثم كانت هناك مفاجأة أخرى تنتظر عائلة "بخات" عند متم السنة الدراسية لسنة 1975، فقد جاء خبر تسليم سكن على شكل "شاليه" لفائدة الجنود الذين كانوا يعملون بالقاعدة الأمريكية بالقنيطرة، مقر عمل والد "محمد". وهكذا كان، فبعد بضعة أيام معدودة، انتقلت العائلة من حي بالمدينة العتيقة إلى حي بالمدينة الحديثة، وهي عبارة عن دور سكنية و"شاليهات" قديمة على نمط مباني أوروبية بوسط مدينة "القنيطرة".
أما الأصل في تسمية المدينة إياها، فما هو إلا تصغير لـ"القنطرة"، والواقعة على نهر "سبو" أطول وأعرض نهر بالمغرب، والذي يعد شريان التنمية الاقتصادية والاجتماعية والفلاحية بأقاليم غرب البلاد، والذي ينبع من بين جبال الأطلس المتوسط، وكان يفوق طوله خمسمائة كلم ومئة وخمسين كلم عرضًا، ليصب بضفاف شاطئ "المهدية: أحد تخوم إنزال القوات البحرية الأمريكية، بالثامن من نوفمبر من 1942.
إبان الحرب العالمية الثانية لمحاصرة "ألمانيا النازية"، بعد انهزام "فرنسا" المستعمرة آنذاك للمغرب ودول أخرى بإفريقيا. كانت "القنيطرة" آنذاك تلقب بـ"بور ليوطي"، وهو اسم أول مقيم عام فرنسي، في عهد الحماية سنة 1912، حيث أنشأ المستعمر أكبر ميناء على نهر "سبو" آنذاك سنة 1932، ثم سلمه للأمريكيين بموجب اتفاق بينهما سنة 1942، وظل كذلك إلى أن أُعيد للمغرب سنة 1977.
ومرت الأيام، إلى أن جاء يوم كان آخر حلقة لمسلسل معاناة "محمد" مع تلك العقوبات النفسية والجسدية، التي ما زال وقعها يؤثر في شخصيته إلى ما لا نهاية. فقد طرده أبوه لأنه لم يعد يريده مقيمًا تحت سقف بيته.
فأخرج مجبرًا إلى المجهول، إلا إنه كان له أحد زملاء الدراسة المقربين، الذي ما إن علم بما جرى لصديقه حتى بادر بإخبار خالته "فاطنة". تلك التي كانا يزورانها من حين لآخر. وهكذا أقام تحت سقف مسكن هاته الأخيرة، وكأنه وسط أهله وكأنه واحد من أفراد عائلتها، فاكتشف حينها طيبة القلوب ودفء الأسرة، وكذا حنان الأم الذي افتقده صغيرًا.
وشاءت الأقدار كذلك، أنه كان قد اجتاز أحد الاختبارات في الميدان الصحي، فقُبل للدراسة والتدريب بمعهد التمريض التابع لوزارة الصحة العمومية لمدة سنتين 1982- 1984 وفي بحر سنة التكوين الثانية، كان قد عرف "محمد" قصة "حب" نادرة، حينما التقى صدفة بـ "رحيمو" شابة عشرينية، جميلة وذات شعر طويل. استمر هذا الحب العاطفي بينهما وفاق السنة، فقد كانا يلتقيان كلما سمحت الفرصة للحبيبة بذلك، والتي كانت تقيم بـ"طنجة" مع أهلها حينها.
لكنها كانت تعمل صحبة أمها بمعمل لصنع الملابس الجاهزة بمستعمرة "جبل طارق"، تحت الحكم الذاتي التابعة للتاج البريطاني منذ سنة 1713 والواقعة أقصى جنوب شبه جزيرة "إيبيريا" على الأراضي الإسبانية. فكانت "رحيمو" حينها تزور "محمد" بالقنيطرة، حالما تسمح لها الظروف بذلك فقد تطورت علاقتهما لمدة فاقت السنة، إلا إن أهلها أرغموها على الزواج من أحد أقاربها رغمًا عنها.
فكانت لهما بمثابة صدمة نفسية حادة، وصارت محاولات لقائه بها عبثية، حينها كان الأخير يقيم عند "فاطنة" سيدة خمسينية، وهي خالة زميل سابق وصديق له يدعى هو الآخر "محمد"، والذي بفضله سمحت له صاحبة المكان، بإقامته الجديدة التي كانت عبارة عن "فيلا" تقع بجوار مسكن أبيه وزوجته وأخواته. فقد مكث هناك لبضعة أشهر، خلالها كان قد أحس فيها بحنان أم لم تلده، بل إن الخالة قد طلبت منه بأن تتبناه رسميًّا لوأراد ذلك، لأن المسكينة كانت أرملة وعقيمًا، خاصة عندما كان قد حكى لها ابن أختها عن دراما حياة صديقه الضيف.
وهكذا مرت أيامه بالمقر الجديد ما بين الدراسة وقصة حبه الضائع، ولكن تحت سقف دافئ بحب الخالة "فاطنة" ورعايتها له بكل حب وعناية أمومة مفقودة. وفي يوم من الأيام التالية، فاجأه صديق الطفولة "التهامي"، راجيًا منه أن يصحبه إلى بيت أهله حيث كان يقيم، وذلك لكي يأخذ مكانه كالابن البكر والمسؤول عن أربع أخوات وأخوين بحضور أمهم الخالة "زهرة".
أما الأب، فقد كان يعمل هو الآخر جنديًّا بالقوات المسلحة الملكية بفرقة المشاة على تخوم الصحراء المغربية منذ 1975، وذلك منذ بداية الأزمة السياسية التي نشأت بين الجارتين الشقيقتين المغرب والجزائر، والتي للأسف دامت لعقود خلت.
كان السبب الرئيس في معضلة الصديق "التهامي" أن هذا الأخير قد صار ممرضًا حديث التخرج من مدرسة التمريض التابع لقطاع الصحة العمومية تلك السنة، وأن مقر تعيينه كان بإحدى قرى مدينة "القصر الكبير" التي تبعد كثيرًا عن مدينته. وعليه، وجب أن يلتحق بمقر عمله في أقرب زمن ممكن.
لهذا ارتأى أن يأخذ صديقه "محمد" مكانه ودوره بالبيت كأخٍ لم تلده أمه، فقد كان ملزمًا برعاية إخوانه وأخواته الصغار ومساعدة الخالة "زهرة" في تسيير شؤون البيت، ثم إن المسكينة كانت تشكو من ارتفاع ضغط الدم ومضاعفاته كأزمات قلبية مزمنة.
فكان أصعب قرار على "محمد" أن يتخذه آنذاك، أيترك أول بيت حماه من التشرد بعدما طرده أبوه، أم يستجيب لنداء صديقه الذي تجمعه به صداقة أخوية قديمة؟ كان الحل في الأخير، أن يمكث بمنزل صديقه أيام الدراسة، وأن يقضي نهاية الأسبوع بمقره الأول.
وهكذا صار الحال إلى أن جاءه خبر سار عن مكان وجود أمه "فطوم"، والذي لم يكن يعلم عنه شيئًا من قبل. ولا حتى مصير أمه بعدما كانت قد رحلت إلى بيت أهلها وعمره حينها لم يكن يتجاوز الربيع الثامن. نعم، ومرة أخرى لعبت الأقدار دورها بكل إحسان، أن يلتقي "محمد" أمه بعد خمس عشرة سنة من الفراق. كان ذلك ذات مساء، وهو عائد كالعادة إلى بيت عائلة صديقه الذي يأويه.
فزف له خبر من طرف كل أفراد البيت وهو يتسلم منهم عنوان مسكن أمه الموجود بالمدينة القديمة بـ"تطوان"، التي تبعد عن "شفشاون" بنحو ستين كلم. كانت الفرحة عارمة بالبيت. والعجيب في هذا الشأن، أنه كانت توجد أسرة تقيم بجوار عائلة "التهامي" تنحدر من الحي نفسه، الذي تقطن به عائلة أم "محمد" بـ"شفشاون"، خاصة وأن جده كان "الساعاتي" الوحيد بالمدينة، فقد كان الكل يعرفه.
اقرأ أيضاً قصة "كان يا ما كان"ج2.. قصص قصيرة
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.