قصة "كاتبة برتبة مقاتل".. قصص قصيرة

حملت حقيبتي وركضت خلف الحافلة في محاولة لأن أصل في موعدي، ليس من المعقول أن أصل متأخرة في أول يوم لي في العمل.

تنبه سائق الحافلة لي فتوقف، تنفست الصعداء وصعدت وشكرته غير أن إحساس الانتصار سرعان ما تلاشى، فجميع المقاعد مشغولة ما يعني أنني سأقف على قدمي ساعة كاملة، ولم أجد أملًا في أن يتبرع أحدهم بمقعده رغم أن أغلبهم بدا في ريعان الشباب، فلقد انتحرت النخوة من زمن بعيد.

إذا ناديت بضرورة حصولي على مقعد في وسط هذا الحشد من الذكور لَهَمّ أحد الحمقى بالمطالبة بجلوسي في المنزل؛ لأنه مكاني الطبيعي، ولتحدث آخر عن مشكلة البطالة التي تسبب بها خروج النساء إلى معترك الحياة المهنية.

لم يعد يشغلني مثل هذه الأمور، جل ما أعرفه أنني وُجِدت في زمان يسمح للمرأة بالعمل والمنافسة، وأنا سأقاتل لأحصل على فرصتي بغض النظر عن كل تلك النظريات البالية.

اقترح محصل التذاكر أن أجلس بجوار باب الحافلة، وطمأنني بأن جميع الركاب لن يغادروا الحافلة إلا عند نهاية الرحلة.

ابتسمت على مضض، وتظاهرت بتفقد رسائل جوالي، ما من جديد، فصديقتي في زيارة إلى الريف عند جدتها حيث لا تغطية متوفرة؛ لهذا لا تراسلني، أما عليّ فمنذ أن افترقنا بسبب حماقاته المتعددة لم يرسل إلي، يبدو أنه قد انشغل بأخرى، فالرجال حمقى بدلًا من أن يعيدوا النظر في تصرفاتهم يهرعون إلى الاقتران بفتاة أخرى.

تصرف طفولي منه ومتوقع وغير جديد على معشر الرجال، ورغبة في الهروب من الشعور بآلام الفراق أو لعله هذا المنطق الذكوري السخيف الذي لا يفرق بين فتاة وأخرى، المهم أن يظهر للعلن برفقة إحدى الفتيات ليثبت للجميع أنه الساحر الذي لا يُقاوم.

تعيسة تلك التي ستقترن بهذا الأحمق المعتد بنفسه طيلة الوقت، لقد استرحت من حمل كان يثقل كاهلي، لقد كان سامًا لأبعد الحدود، كثير الشجار، محبًا للنقد، كان عائقًا لي غير أني لم أنتبه؛ لأني كنت أراه بعيون المحب التي تأبى أن ترى حقيقة الأشياء.

الآن وقد عاد إليّ صوابي وتوقفت عن البكاء ودفعت إليه خاتم الخطبة بإصرار تام رغم محاولاته المتعددة لإثنائي عن قرار الانفصال...

هو لا يدرك أن المرأة تسامح وتتغاضى وتعفو كثيرًا، لكنها عندما تطرد أحدًا من حياتها لا تعيده على الإطلاق، صرت أرى بوضوح تلك الكارثة والجريمة التي كنت سأقترفها في حق نفسي إذ ارتبطت بهذا المختل، لم أكن أبكي على فراقه، بل على نفسي التي تتعاطف بسهولة مع البلهاء.

مضى شهران على فراقنا، وصمتَ هاتفي للأبد بعد أن كنا نتحدث ليل نهار، لكني موقنة أن تلك الجثة الصامتة ستعود إلى الحياة عقب استلامها مهام العمل في القناة.

رشحتني صديقة أمي للعمل، فهي صديقة مقربة لمالكة القناة، ولولا مساعيها لما وصلت إلى تلك القناة المشهورة، من وقتها وأنا أحلم باليوم الذي سأكون فيه مالكة لقناة ما، ولديّ جيش من الموظفين، وسيارة فارهة وسائق خاص.

أفقت من أحلام اليقظة بسبب صوت جهوري، لقد كان ينهر أحد الصبية لأنه كان يخرج رأسه من شباك الحافلة.

بدأت أشعة الشمس تتسلل على استحياء إلى مقاعد الركاب غير أن شمس الشتاء لا تُسمن ولا تغني من جوع، فالجميع تشبث بملابسه وغطَّ في سبات عميق أملًا في دفء تصنعه الأحلام.

أخذت أتفحص الوجوه، يمكنني أن أكتب قصة طويلة لكل وجه، تنبئني ملامح البشر بحكايات ومواقف بعضها حزين والبعض الآخر يحدوه الرجاء.

توجد ملامح ترغب في مفارقة الحياة، ويوجد من يتشبث بها في إصرار عجيب.

عقب ساعتين وصلت إلى مبنى القناة، كان قديمًا عتيقًا غير أنه بدا فخمًا؛ لقد كان قصرًا لأحد الأثرياء فيما مضى غير أن صاحبة القناة حولته إلى صرح إعلامي كبير.

بعد عناء وصلت إلى مكتب المشرف العام، وضعت أمامه أوراقي، فأخذ يقلّبها، هو يعلم أنه يوجد مئات مني يتلهفون إلى العمل في القناة؛ لهذا أعتقد أنه سيعاملني وفقًا لتلك النظرية القائمة على «اسحق من يعمل لديك حتى الموت، ولا تقلق فيمكنك استبداله بآخر في ثوان معدودة».

أخذ يتفحص حقيبتي دون أن ينظر إليّ، وسألني إن كنت أحمل جهازًا لوحيًا فيها، وعندما هممت بهز رأسي تعبيرًا عن الموافقة طلب مني أن أكتب شيئًا عن الذكاء الاصطناعي.

أمسكت بالجهاز، لكن صدقًا لقد اختفت كل الكلمات ولم أعد أدرك من أين أبدأ، أخذت استعطف عقلي لكي يملي عليّ بعض الأفكار فتنازل بعد جهد مضنٍ.

كتبت بعض الأفكار وسلمتها المشرف العام، فمطَّ شفتيه وأظهر امتعاضه وأخبرني أن كلماتي ركيكة للغاية، وطالبني أن أعيد كتابة أفكاري.

حقيقة لم تعجبه المحاولة الثانية ولا الثالثة ولا الرابعة، ولكي أريحكم حتى لا أطيل عليكم أظهر بعض الارتياح بعد المحاولة العاشرة بعدها ضغط على زر فظهر له خمسة من المحررين في الوقت نفسه.

طلب منهم أن يضيفوا الجزء الذي كتبته إلى حلقة البرنامج المسائي، وطلب مني أن أنضم إليهم، كانت صالة التحرير رحبة وبها عشرات المكاتب والموظفين غير أنهم يعملون في صمت مطبق.

جلست أتأمل وجوه الجميع، فهي هواياتي المفضلة التي تساعدني على الاسترخاء.

بعد ساعتين لاحظت حركة غير طبيعية، فالجميع بدا متوترًا كأنما هم على وشك كارثة ما، عندما استفسرت عن سبب كل هذا الارتباك أخبرتني ساندي تلك التي تشرف على النشرات الإخبارية أن ميادة قاربت على القدوم.

كلمة واحدة من ميادة كفيلة بأن تخرجك من القناة إلى غير رجعة، فهي من تحقق أعلى المشاهدات وتجلب الإعلانات لهذه القناة البائسة.

هرع الجميع في اتجاهها، سألت عن خبير التجميل ومصممة الأزياء، أخذ المشرف العام يتحدث إليها، لكنها لم تكترث لما يقول البتة، سرعان ما أتى المعد وأخذ يتحدث معها وطالبني أن أقف على مقربة منه.

بعد قليل أمرني أن أعطي ميادة نبذة مختصرة عن الذكاء الاصطناعي والفكرة التي كتبتها، بدت مثقفة للغاية وأخذت تسأل عن أدق التفاصيل.

أخبرها المعد أنني المتدربة الجديدة في قسم الإعداد، طلبت مني أن أكتب شيئًا جذابًا، واقترحت لمناسبة حلول الذكرى الأولى لمقتل المطربة المشهورة على يد معجب مختل أن أعد كلامًا يليق بذكراها.

حقيقة تعجبت من ذكاء ميادة ومعرفتها للأحداث، لقد كنت أحسب أن أمثالها لا يحفلون سوى بالإطلالات الحديثة وخطوط الأزياء والموضة، في تمام الساعة الخامسة بدأ البث المباشر للنجمة المتألقة، بدا هذا العالم الجديد ساحرًا.

كنت منبهرة بكل كلمة تقولها ميادة، وعندما حانت فقرة الذكاء الاصطناعي كنت أردد معها الكلمات، بعد ساعتين انتهى البرنامج وصفق لها الجميع، بعدها سمح لي المعد بالانصراف، وشدد على ضرورة أن ألتزم بالقدوم مبكرًا.

خرجت للبحث عن وسيلة للعودة إلى منزلي، وبعد معاناة وصلت إلى موقف الحافلات، وأخيرًا فعلت، لقد كانت آخر حافلة على وشك المغادرة، وصلت إلى منزلي في تمام التاسعة والنصف، لم أبحث سوى عن الفراش فلقد كنت في غاية الإجهاد.

أغلقت عيني واستسلمت النوم، لكنها المرة الأولى التي أشعر أن شيئًا مهمًّا سأفعله في الصباح.

دمتم بكل ود...

اكتب القصص القصيرة والسيناريو.اعمل في القسم الاخباري بمدونة رواد المتوسط أكتب المقالات على مدونة أنامل عربية وأكتب محتوى لقناة تدبر على يوتيوب. khashabaasmaa@gmail.com

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

سبتمبر 17, 2023, 7:37 ص

صباح الخير 🌸 قصة جميلة تحمل في طياتهامغامرة جميلة و رائعة احسنتي السرد بالتوفيق ❤️

أضف ردا
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

سبتمبر 17, 2023, 7:50 ص

الاجمل مرورك الطيب...ايتها الأميرة المبدعة

أضف ردا
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

هل تحب القراءة؟ كن على اطلاع دائم بآخر الأخبار من خلال الانضمام مجاناً إلى نشرة جوَّك الإلكترونية

مقالات ذات صلة
سبتمبر 28, 2023, 9:26 ص - مني حسن عبد الرسول
سبتمبر 27, 2023, 7:17 م - محمد جاد المولى
سبتمبر 27, 2023, 2:43 م - صفاء السماء
سبتمبر 27, 2023, 2:30 م - أحمد سامى محمد الجمل
سبتمبر 27, 2023, 1:58 م - زينب هلال
سبتمبر 27, 2023, 1:17 م - نادية مصطفى حسن
سبتمبر 26, 2023, 9:05 ص - زينب هلال
سبتمبر 26, 2023, 6:35 ص - جلال ناجي حسن
سبتمبر 26, 2023, 6:23 ص - خلود محمد معتوق محمد
سبتمبر 25, 2023, 2:52 م - جينا فاروق توما
سبتمبر 25, 2023, 8:55 ص - رايا بهاء الدين البيك
سبتمبر 25, 2023, 6:34 ص - ريم عبدالله
سبتمبر 24, 2023, 7:04 م - أسماء خشبة
سبتمبر 24, 2023, 11:40 ص - حسن محمد قايد
سبتمبر 24, 2023, 8:33 ص - سومر محمد زرقا
سبتمبر 24, 2023, 6:14 ص - سومر محمد زرقا
سبتمبر 23, 2023, 2:32 م - بومالة مليسا
سبتمبر 23, 2023, 2:19 م - بومالة مليسا
سبتمبر 23, 2023, 11:08 ص - مدبولي ماهر مدبولي
سبتمبر 23, 2023, 10:50 ص - مدبولي ماهر مدبولي
سبتمبر 23, 2023, 9:11 ص - سهيلة يحيى زكريا
سبتمبر 23, 2023, 6:46 ص - خوله كامل عبدالله الكردي
سبتمبر 21, 2023, 5:25 م - ليلى امير
سبتمبر 21, 2023, 1:47 م - أنس بنشواف
سبتمبر 21, 2023, 12:47 م - إياس فرحان الخطيب
سبتمبر 21, 2023, 12:26 م - آسيا نذير القصير
سبتمبر 21, 2023, 12:05 م - خوله كامل عبدالله الكردي
سبتمبر 21, 2023, 11:21 ص - زينب علي محمد
سبتمبر 21, 2023, 8:50 ص - وليد فتح الله صادق احمد
سبتمبر 21, 2023, 8:42 ص - تامر عز الدين سعيد
سبتمبر 21, 2023, 8:11 ص - أمل محمود قشوع
سبتمبر 21, 2023, 7:44 ص - سحر حسين احمد
سبتمبر 21, 2023, 7:37 ص - خلود محمد معتوق محمد
سبتمبر 20, 2023, 8:18 ص - سومر محمد زرقا
سبتمبر 20, 2023, 6:20 ص - زينب هلال
سبتمبر 19, 2023, 1:12 م - بومالة مليسا
سبتمبر 19, 2023, 10:26 ص - خوله كامل عبدالله الكردي
سبتمبر 19, 2023, 7:53 ص - تامر عز الدين سعيد
سبتمبر 18, 2023, 5:28 م - أمين عبدالقادر لطف أحمد
سبتمبر 18, 2023, 4:01 م - رايا بهاء الدين البيك
سبتمبر 18, 2023, 2:57 م - بوعمرة نوال
سبتمبر 18, 2023, 8:23 ص - زينب هلال
سبتمبر 18, 2023, 7:21 ص - سومر محمد زرقا
سبتمبر 18, 2023, 6:20 ص - زينب هلال
سبتمبر 17, 2023, 4:00 م - عبدالرحمن أحمد عبدربه الصغير
سبتمبر 17, 2023, 9:58 ص - وصال وداعه علي
سبتمبر 17, 2023, 6:26 ص - مني حسن عبد الرسول
سبتمبر 16, 2023, 1:31 م - ميساء محمد ديب وهبة
سبتمبر 16, 2023, 6:56 ص - رهف ابراهيم ياسين
سبتمبر 15, 2023, 12:45 م - سهيلة يحيى زكريا
سبتمبر 14, 2023, 7:27 م - محمود إبراهيم حفنى
سبتمبر 14, 2023, 7:03 م - زكريا عبده عمر عبده
سبتمبر 14, 2023, 10:15 ص - سادين عمار يوسف
سبتمبر 14, 2023, 9:01 ص - صفاء السماء
سبتمبر 14, 2023, 8:40 ص - شروق محمود محمد علي
سبتمبر 14, 2023, 8:05 ص - أسماء محمد حمودة
سبتمبر 14, 2023, 7:03 ص - رايا بهاء الدين البيك
سبتمبر 14, 2023, 6:14 ص - بومالة مليسا
سبتمبر 13, 2023, 6:44 م - صفاء السماء
سبتمبر 13, 2023, 5:36 م - صفاء السماء
سبتمبر 13, 2023, 9:27 ص - بومالة مليسا
سبتمبر 13, 2023, 7:25 ص - مني حسن عبد الرسول
سبتمبر 13, 2023, 6:19 ص - حسام عبدالله الساحلي
سبتمبر 12, 2023, 9:10 م - مايا عز العرب عزالدين
سبتمبر 12, 2023, 5:52 م - صفاء السماء
سبتمبر 12, 2023, 5:13 م - صفاء السماء
سبتمبر 12, 2023, 2:19 م - حنين عبد السلام حجازي
سبتمبر 12, 2023, 8:05 ص - ميساء محمد ديب وهبة
سبتمبر 12, 2023, 6:47 ص - رايا بهاء الدين البيك
سبتمبر 11, 2023, 7:36 م - صفاء السماء
سبتمبر 11, 2023, 2:57 م - مبدوع جمال هند
نبذة عن الكاتب

اكتب القصص القصيرة والسيناريو.اعمل في القسم الاخباري بمدونة رواد المتوسط أكتب المقالات على مدونة أنامل عربية وأكتب محتوى لقناة تدبر على يوتيوب. khashabaasmaa@gmail.com