لم أكن أهتم بمطالعة كتب القصص، غير أني تشوّقت لمطالعة قصة قواعد العشق عندما قرأت ما كتب عنها الدكتور سلطان وسمي في تويتر الذي أظهر إعجابه بهذه القصة وكأن هذا الثناء منه أعطاها تزكية عندي، ولهذا حرصت على أن أحصل على هذا الكتاب، وقد تيسَّر لي ذلك دون كبير عناء بفضل الله تعالى، فالنشر متيسّر بسبب التطور التكنولوجي في هذا العصر، فلله الحمد والمنَّة.
ومما لا شك فيه أن صاحبة القصة إليف شافاق، كاتبة مبدعة، ودارسة للتاريخ الإسلامي والتصوف خاصة، ويظهر لي من خلال كتباتها أنها تتمتع بثقافة واسعة، كما يظهر أنها خبيرة في علوم التنمية الذاتية والنفس البشرية، وقد وظَّفت كل طاقاتها المعرفية وتجاربها في الحياة في كتابة قصة قواعد العشق هذه، وقد استطاعت ببراعة أن توظِّف عنصري الإثارة والتشويق في القصة، ولو كان ذلك في بعض الأحيان على حساب الموضوعية والأمانة التاريخية في أحداث القصة، وبهذا استطاعت أن تجعل القارئ مشدودًا دائمًا، ومتشوقًا لمتابعة وقائع القصة وأحداثها، لا سيما أنها استطاعت أن تجعل شخصياتها مليئة بالحيوية والنشاط والمفاجآت.
وكما سبق لي أن ذكرت فإن الكاتبة إليف شافاق استخدمت عنصر الإثارة في قصتها ولو تجاوز ذلك حدود الموضوعية والأمانة التاريخية، وهذا ما يتضح من خلال الشخصيات الصُّوفية الثلاث التي كادت أن تجعل مدار القصة عليهم.
وبناء على ذلك فإن ملاحظاتي ستتمحور حول هذه الشخصيات الثلاث وصلتهم بالتصوف وهم: شمس، وابن الرومي، وعزيز.
وقد وصفت الكاتبة كلًا منهم بأنه صوفي، مع أنني أتحفَّظ على إطلاق هذا الوصف عليهم، ورأيي أن سلوك هؤلاء قد لا يمثِّل حقيقة التصوف لأنه في أغلبه مخالف لأحوال الصوفية، ولكي نتحقق من مطابقة سلوك شخصيات قصَّتنا مع حقيقة التصوف، علينا أن نعرف أولًا ما هو التصوف؟
لقد وقع اختلاف كبير في تعريف التصوف لدى الباحثين، وحتى لدى المشايخ من الصوفية أنفسهم، وقبل أن نخوض في تعريف التصوف، لا يفوتني أن أنُبِّه إلى مأخذ آخر ألاحظه على كاتبة القصة وكان الأولَى أن أذكره قبل كل شيء آخر ألا وهو ورود عبارات قادحة في الأدب في جانب الحق سبحانه وتعالى، ولست أدري هل يرجع ذلك إلى مسؤولية مترجم القصة أم هي عبارات مقصودة تهدف لأغراض محددة، وإن كان هذا قد لا يخرج عن مقاصد الإثارة التي طبعت صبغة القصة من أولها إلى آخرها.
وعندي ملاحظة أخرى ولعلَّ لها علاقة كبيرة في الإقبال الكبير الذي شهدته هذه القصة لدى الناس، وهي أنها استطاعت أن تتجاوب مع مختلف الأذواق متجاوزة اختلافات الأديان والأعراق والجنسيات، والمؤمنين وغير المؤمنين، ففضاء "قصة قواعد العشق" يسمح فيه لكل شيء باسم الحب حسب مفهوم شمس "الصوفي".
ولنرجع إلى موضوع تعريف التصوف، وقد وردت له تعاريف كثيرة، لكننا نختصر على تعريف جامع مفاده أن التصوف هو الدخول في كل خُلُق سنيّ والخروج من كل خلق دَنيّ؛ أي هو أن يتحلَّى العبد بالفضائل ويتخلَّى عن الرذائل، ولن يستطيع أحدٌ الوصول إلى هذه الحال ما لم يستقم على أوامره سبحانه وتعالى، ويبتعد عن نواهيه، وانطلاقًا من ذلك يمكننا القول إن السِّمة البارزة التي يتميز بها الصوفي عن غيره هي استقامته على الشرع في الظاهر والباطن وتحكُّمه بغرائز نفسه وهواها.
وبما أننا تعرّفنا إلى مفهوم التصوف عند أهله، يمكننا الآن أن نزِن سلوك شخصيات قصة قواعد العشق على ميزان التصوف وهل هم يتصفون بأحوال الصوفية أم لا؟
ولنبدأ بما يسمى بالدرويش المتجول شمس؛ فهو فيما يبدو شخصية منفتحة، لطيف مع الناس، له فلسفة خاصة في الحياة، مع أن خطابه لا يستوعبه عموم الناس، ويتغنى بالحب، ويعدُّه سر الحياة، وهو في بعض الأحيان غريب الأطوار يدعو ابن الرومي إمام المسجد والعالِم الشرعي المعروف في المدينة لارتياد حانة للخمور والتزود منها، كما يدعو وجهاء المدينة لحضور أغانٍ ورقصات جماعية بحضرة هذا الإمام الداعية الاسلامي، ولست أدري إذا ما كانت كاتبة القصة تعدُّ مثل هذه الرقصات الفلكلورية ما يميّز الصوفية، وقد دفع رجال الصوفية عن أنفسهم مثل هذا الوصف في أبيات من الشعر:
ليس التصوّف لبس الثوب ترقعه ولا بكاؤك إن غنى المغنونا
ولا صياحٌ ولا رقصٌ ولا طربٌ ولا تغاشٌّ كأن قد صرت مجنونا
بل التصوّف أن تصفو بلا كدر وتتبع الحقّ والقرآن والدِّينا
وفضلًا عن ذلك، أعتقد أن كل ما دعا إليه شمس -كما سبق أن رأينا- يعده الشرع الإسلامي من الشبهات التي ينبغي للمسلم أن يبتعد عن محالّها لا سيما بالنسبة للعلماء والأئمة الذين هم قدوة للمجتمع في الدين والأخلاق، وكل هذا مما يخالف أحوال الصوفية وعملهم، وذلك لتمسكهم الشديد بأحكام الشرع وحرصهم على السعي إلى ما يرضي الله تعالى.
وكذلك من أطوار شمس الغريبة أننا في الوقت الذي نجده يتغنى بالحب، ويعدُّ الحياة دونه لا معنى لها ومع ذلك نجده يتزوج بـ…. ويحرمها من الحب، يتزوجها ويقضي معها أكثر من سبعة أشهر دون أن يؤدي حقها كزوجة، ما جعلها تتعذّب من هذه الحالة التي لم تفهم أسبابها، ولفرط حبها لزوجها وقوة ثقتها به تُرجع سبب عزوفه عنها لضعف أنوثتها فتستعين بخبرة زميلتها فتعمل على تطبيق نصائحها في قواعد التجميل حتى تستطيع أن تجذب زوجها وتعمل على إثارته والتحبب إليه حتى تستميله، وتنجح في الوصول إلى ما يلبّى رغبته، لكنها تصاب بصدمة شديدة حينما لا يتجاوب معها شمس في كل ذلك، فيزداد الألم المكبوت والحيرة من هذه العلاقة الزوجية غير المفهومة، وإن هذا لعَمْري تناقض ذريع في شخصية شمس مع "مبادئه" التي يتظاهر بالتحلي بها، وهو ما يخالف أيضًا القاعدة الشرعية المعروفة: لا ضرر ولا ضرار، فالرجل السّوي الناصح الأمين ينبغي أن يفصح بصدق لزوجته عن حالته وموانعه التي تحول دون وفائه بواجباته نحوها حتى يجعلها في بيّنة وبصيرة من أمرها، وفي الحال هذه عليه أن يخيّرها في أن تبقى معه في حضن الزوجية برضاها أو يطلّقها فتذهب في سبيلها بسراح جميل...
للقصة بقية…
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.