لقد كانت يومًا في جلسة بنات يتحدثن عن أدوات التجميل، فذكرت إحداهن قلم رسم العيون وبعدها سألت صديقتنا..
- هل تجيدين رسم عيونك؟
لترد عليها بالنفي، فتتفاجأ الحاضرات لجهلها بذلك، ويبدأن بالنظر لبعضهن البعض مستغربات، ويرسمن ابتسامة نشوة، وكأن صديقتنا فوَّتت عليها فرصة العمر، ولربما لو حدث هذا الموقف لإحداهن لرأيناها تُسارع بأخذ دورة تدريبية لتعلُّم تقنية غزو الفضاء أو... أقصد رسم العيون، لكن صديقتنا غضَّت الطرف عن الموضوع؛ لأنها رأت أنه ليس من أولوياتها، وحديث مثله لا يُغني ولا يُسمن من جوع.
في الواقع لقد شعرتْ في بداية الأمر بالحرج أمام البنات وأحسَّت بأنه ينقصها شيء، لكن سرعان ما نسيت الموضوع وبأمر إلهي، فلطالما كانت بعيدة عن هذه الاهتمامات، بل كانت القراءة والكتاب هي ما تميل إليه، ودون أن تشعر راحت تُعَبِّدُ الطريق لعقلها وقلبها.
وفعلًا فإنها لا تعرف كيف تضع المساحيق، وبمعنى أصح لم تسعَ يومًا أن تتعلم كيف تضعها، فهي لم تكن مُغرمة بتلوين الوجوه وإخفاء جمالها الحقيقي بقدر ما تسعى لتزيين قلبها وعقلها.
قد يعد البعض هذا من قبيل التطرف، لكن الواقع هو أن تجمُّل المرء في آرائه وعلاقته بالخالق؛ فهو الكفيل بتجميله وجعله حسنًا في عيون الآخرين.
طبعًا هذا لا يُعد حجرًا على ما يعتقده البعض؛ فكلٌّ له اهتماماته، وهو حرٌّ في ذلك، مثلما يوجد أيضًا من يعُدُّ الألوان التي يضعها المرء على وجهه ما هي إلاَّ حاجز أمام عطايا الكون، فبقدر ما كان جسده خفيفًا وغير مُتخم بالأحمال فإنه تسهُل عليه عملية الاستقبال.
لقد اختار الخالق لصديقتنا أن تحمل قلم كتابة بدل قلم عيون لتعبِّر عن ذاتها، فمفهومها عن الأنوثة يختلف عمَّا يُروج له الآن من مظهرٍ خارجي وملحقاته، فهي تحب أن تتحدث عن نفسها أحيانًا وتذكر عيوبها لكي تتحرر من تلك القوالب التي يحاول المجتمع وضع الفرد فيها، فيغدو شخصًا نمطيًّا بامتياز.
إن تلك التي ترسم عيونها كل يوم وتغيِّر من شكلها، هل فكَّرت يومًا أن ترسم طريقًا لها يقودها إلى النجاح مع ذاتها؟ بل المؤكد أنها تُخفي جمالًا داخليًّا لو انتبهت له لرمت بكل مستحضراتها وراءها؛ فهي لا تدرك حجم الراحة التي تشعر بها وهي غير مقيدة بآراء الآخرين.
قد يقول البعض إنه توجد من هُنَّ ناجحات، وعلى الرغم من ذلك فهُنَّ يهوين التلوين، لكني أعتقد، ومن وجهة نظري، أنهن لن يكنَّ راضيات عن أنفسهن تمامًا؛ لأن تركيزهن سيكون منصبًّا على أمور عدة:
- هل البودرة التي وضعتها على وجهي ملائمة للون بشرتي؟
- هل قلم العيون الذي اقتنيته حديثًا يبرز جيدًا لون عدساتي، أقصد عيوني؟
- هل أحمر الشفاه الذي اخترته ملائم مع ما أرتديه؟
- هل الشامة التي وضعتها ملائمة على الخد الأيمن أم ترى أنها من الأحسن أن أضعها على خدي الأيسر؟
- والأهم من ذلك تلك الغمازتين اللتين دفعت من أجلهما مبلغًا معتبرًا هل أبرزتا جمالي الرباني؟
وبعد كل هذه الأسئلة هل تراها ستتحصل على إجابات وهي التي لم تسمح لنفسها باستقبالها أو حتى تتهيأ لذلك؟
في الواقع لقد تعرضت إحداهن لموقف طريف جعلها تعيد ترتيب بعض أولوياتها، أقصد شامتها، حتى إنها استغنت عنها نهائيًّا حين نهضت يومًا مضطربة بسبب المنبه الذي لم يكن يومها حليفها، فقد نفدت بطاريته ليلًا ولم يرن كعادته، لتُسرع صباحًا بوضع مساحيقها في عُجالة، وحين وصلت لمقر عملها انتبهت لها إحدى الزميلات لتسألها:
- أليست شامتك مكانها الخد الأيسر أم تراني أنا التي لم تنتبه جيدًا؟
أما لسان حال صاحبة الشامة فيقول:
- لا، لستِ مخطئةً، بل أنا من نسيت وضعها في الخد المعتاد!
ومن يومها أصبحت تخفِّف من رسم الشامة إلى أن اختفت دون رجعة؛ بحجة إزالتها عند طبيب التجميل لدواعي صحية بحتة.
إن قصتنا اليوم وما تحمله من طرافة، تُعرِّي ظاهرة غزت مجتمعات كثيرة جعلت ظاهر الإنسان هو من ينوب عنه والمتحدث الرسمي له، وتناست جوهره.
لقد أصبح المرء يُقاس بما يرتديه ويحمله من ملحقات، فلو كان النجاح يُقاس برسم عينٍ أو بإتقان خط حاجبٍ لأمسينا جميعًا نحمل عيون المها تخترق كل المجالات.
لكن للأسف فالمها ومن بداية الخليقة وهي مُطاردة من صياد نَهِمٍ يسعى للنيل منها ومن لحمها الطري، والسؤال هو:
- هل تراه يعزف عن صيدها لمجرد أن تلمحه بلحظها فيتراجع عن فعلته؟
طبعًا لا؛ فعينه على سد رمقه الذي لا ينتهي أبدًا، وليست عيونها السود هي ما يريد.
في الواقع قد نتقاطع نحن مع صديقتنا اليوم في أننا نهوى إظهار أحسن ما فينا، ونحاول أن نخبئ غير الجيد، والذي بتربيتنا اعتقدناه سيئًا، وهو غير صحيح؛ فخلقة اللَّه قد وضعها فينا لحكمة، أمَّا ما يُعد سيئًا فهو تلك التصرفات التي تصدر عنَّا وبإرادتنا، فنبدأ بالتباهي بها ولا نحاول تغييرها؛ خوفًا من المجتمع أو أن يُقال إننا ضِعاف.
إن الهروب والخوف من التغيير هو الذي يولِّد الضعف، أما التغيير فهو من شيَم الأقوياء؛ لذلك علينا أن نُذكِّر أنفسنا بأننا بشر نخطئ ونصيب، ولا بأس ببعض التغيير الذي يحدث منا؛ فهي سُنة الحياة، ولا ضير بأن نُمسي أشخاصًا آخرين وأفضل من ذي قبل، فحتى الصخر يتغير عن طريق عوامل الطبيعة، فما بالك بالإنسان الذي يحوي جسدًا وقلبًا وروحًا؟
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.