انتشرت صورها في الصحف والمجلات، وأصبحت حديث الساعة والموضوع الرئيس للتجمعات، وكيف لا؟ وقد ضربت زوجها الهُمام وأحدثت في جسده عاهة ستستمر على الدوام.
تسابقت على بابها القنوات لإجراء لقاء حصري لكي تسكب من خجلها العبرات، وأصبحت مشهورة بين الحي والجيران بصابرين التي ضربت زوجها سعفان.
اغتاظت من كثرة النقد وطول الملام، فجنس البشر حمقى، ولا يجيدون سوى الكلام؛ لهذا قررت أن تخرج عن صمتها، وتبوح بما كان في مكنون صدرها.
واختصت بالحديث صاحب أشهر برنامج في الفضائيات السيد إدريس الذي وجد من قبولها لدعوته فرصة سانحة ليستعيد نجوميته التي قضت عليها المذيعة الفلانية التي تدلل الرجال وتدعي المثالية، وما هي إلا حمقاء لا تريد سوى الشهرة والثراء.
ارتدى السيد إدريس أبهى ثيابه، ووضع على وجهه الرتوش، وخرج عن صوابه، وقال لها بانفعال:
- أجيبي عن سؤالي في الحال، ما الذي دفعك لضرب زوجك سعفان؟ هل سرك ما آل إليه حالك يا أضحوكة الحيران؟
فأجابت:
- إنما قبلت دعوتك لكي أوضح الصورة، ولست قادمة لأسمع الأحكام من حضرتك، سأروي قصتي على الجماهير علّ فيهم من يفهم، ورغم أني متحقِّقة أن أغلبهم من الحمير، إنما جلسوا ليتسلوا ويروا بأم أعينهم ضاربة زوجها، ثم في الصباح يتشدقون بالحديث عن جبروتها.
اعتدل إدريس وأيقن أن ضيفته ليست من النوع الخسيس، فقال لها باهتمام:
- أكملي، وقصي ما تريدينه ولا تخجلي.
هنا توجهت صابرين نحو الكاميرات، وأكملت:
- هذا الذي تحسبوه عليّ زوجًا منشودًا، إنما هو بلية وربي المعبود، من زواجي به لم ألق سوى الإهانة، وكأنني جارية وقد كنت ببيت أبي سلطانة، وهو سليط اللسان لا يرى إلا السيئ.
ويتغافل عن أي إحسان، أقوم كل يوم في الفجرية، فأكنس بيتي وأقوم على خدمته، وأطبخ وأمسح ولا ألقى جزاء صنيعي سوى ملامته، وكأنه يتصيد الأخطاء.
حتى أصبح وجوده في البيت كأنه البلاء، لم أتحدث عن تقطيره علي في المال، وأنه أحمق جاهل لا يقرأ كتابًا ولا ينفعل بحال من الأحوال، هو بارد صفيق يكره الثقافة ولا يجيد سوى التلفيق.
هنا قاطعها إدريس:
- أي تلفيق تعنين؟ لا بد من توضيح كلامك يا صابرين.
أجابت صابرين:
- يا سيدي، إنه يجيد التصنع أمام النساء، ويدعي أنني بزواجي منه أسعد السعداء، وهو كلام عارٍ تمامًا من الحقيقة، فمنذ زواجي منه أصبحت الأحزان بي لصيقة.
يا سيدي هو جلمود صخر، وسيظل مثل الحجارة أبد الدهر، حتى الحجارة أحيانًا تتفجر منها المياه، ومنها ما يهبط من خشية الله، لكن سعفان هذا ثعبان لا ينطق بالحسنى وجعلني أتلاشاه قدر الإمكان.
هنا سألها إدريس:
- لكنك لم تخبرينا عن سبب ضربك إياه؟ أخشى أن ينتهي وقت الحلقة فهو في التاسعة، وما زلنا لم نعلم سبب الواقعة، ولم قمت بمثل تلك الفاجعة؟ فكما تعلمين أغلب معشر الرجال على هذه الحال.
ولم نسمع أنهم تعرضوا للضرب، أخشى أن ما قمت به أمر عضال، إن المعهود أن تُضرب الزوجات وتتعالى منهن الصيحات والتنهيدات، بل أحيانًا يلزمن الفراش على إثر العنف وتكثر الآهات، فما الذي فعلته يا شقية ولم كسرت القاعدة وخالفت البقية؟
أجابت صابرين:
- لقد ضاقت بي الحال، وأصبح إصلاحه أمرًا محالًا، لقد طفح بي الكيل، فلقد كثر خطؤه، وابتعد عني بمقدار ميل، سيدي لقد مات الرجال في الحرب أو الوباء، ولم يبقَ سوى السفهاء والبُلهاء.
وكأنها حرب على معشر النساء، ينفذها هؤلاء الحمقى في دهاء، أغلب النساء يبكين ومن سوء المعاملة والإهمال يشتكين، لكن تمنعهن بعض الاعتبارات مثل الخوف من اللوم، وشماتة الحمقاوات الحيزبونات؛ لهذا كتمن الدموع وارتضين بالهم والغم والجوع.
فسأل إدريس:
- أي جوع؟ هل الرجل حرمك من الطعام؟
أجابت صابرين:
- لا، ليس جوع الطعام أعني، إنما هو الجوع العاطفي، يا سيدي، لقد وعدني هذا الخسيس أن أعيش في هناء، فإذا بي تفاجأت أني تزوجت إبليس، فلا يجيد الغبي فن الاحتواء.
ولا أسمع منه أي كلام، إنه ليس برجل، بل هو ابتلاء، سيدي، ما الفائدة من وجودهِ إذا لم أحس بالمودة وصرت حزينة بقربهِ، تبًّا لهذا المجتمع الأحمق الذي تعاطف مع الجاني وتناسى الضحية، ورسم سلوكًا للرجال لا يرضي الله، وليس به أي إنسانية للزوجة، بل ابتذال.
سيدي ليست الزوجة خادمة، وهب أنها ارتضت بهذا، فهذا من طيب أصلها وينبئ عن صلاحها وحسن تربيتها؛ لذا من المفترض أن يمدحها الزوج ويقف في صفها، ويعاونها.
لا أن يتصيد الأخطاء لكي يجادلها، سيدي، أغلب الرجال لا يقدّرون النساء، ويحتاجون لتقويم، بل للحبس لكي يفقهوا، أيها الرجال، إن الزوجات رزق وأمانة، فاجعلها أيها الزوج سيدة وسلطانة، وأغدق عليها من معسول الكلام لكي تشعر بالسعادة وتعيش معها في وئام.
هنا التفت إدريس للجمهور، وكان من حديث صابرين متحيرًا وغير مسرور، فلقد أهان قبل الحلقة زوجته واتهمها بالتقصير، وزاد من الكلام الخطير، فخاف من أن تأخذها الحمية وتفعل مثل صابرين.
حينها سيصبح أضحوكة الجماهير العربية، وحديث المغتربين والباحثين عن القضية، فاستدرك في ثبات:
- أيتها الريحانة، حبيبة قلبي جنات، من هذا المنبر الإعلامي الكبير أعلن أني أخطأت في حقك، وأعترف بأنني مذنب كبير، وأعاهد الجميع أنني سأكون من اليوم متعاونًا مطيعًا.
هنا أتى اتصال من زوج صابرين وأعلن أنه متنازل عن القضية، وأن صابرين تستحق التقدير، وأنه هو من قصر في حقها، ومن الآن سيحسن التصرف ويعترف بفضلها.
كاد كل شيء أن يكون آخره تمامًا، إلا أن صوت زوجها الجهوري وصوت جرس التنبيه أيقظها من سباتها العميق، فتحققت أنها كانت في عالم الأحلام، وأن صلاح زوجها وحسن معشره سيكون فقط في المنام.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.