يستيقظ يومًا بـ"صباح الخير" مختلفة عن مثيلتها من قبل، ينأى بها عن حضن أمه، الذي كان يفر من سريره إليه، وكانت تسلبه منه بأعجوبة لينام في سريره كل ليلة..
لم تُدرك الأم متى تحول صوته الرقيق إلى هذا الصوت الغريب، منذ متى وهو لا يحب الاقتراب منها، ومنذ متى وهو يستنكر دخولها غرفته فجأة وقد كان بالأمس يقضي يومه كله متشبثًا بها؛ لتجد نفسها فجأة في موضعٍ مختلف، باتت تعلمه الاستقرار والخصوصية ولم يستوعب منهما شيئًا، ثم يتهمها فجأة بانتهاك خصوصيته واضطراب استقراره..
كانت بالأمس تتمنى أن يسمح لها بالابتعاد عن ساحة تدريبه في النادي للحظات تلتقط بها أنفاسها، ويأبى إلا أن تظل طوال تدريبه تشجعه وتناديه، ليصبح الآن صوتها يُحرِجه، ويحاول التملص منها عند بوابة النادي.
كانت تمل من ثرثرته وترهقها أحضانه المستمرة طوال اليوم، وتشتهي أن تحظى بدقائق لنفسها، فأصبحت تشتهي كلماته، وتشتاق لحضنه، وتمل من طول الوقت الذي تقضيه وحدها.
لنجد الأم تقف أمام بحر من الاتهامات، يومًا تتهم نفسها بالتقصير، ويومًا تظن أنه وصله منها شعور بالملل وتلك كانت ردة فعله، ويومًا تظن بأنه تقابل مع أصدقاء جدد وتكونت علاقة سيئة بأصدقائه دون أن تعرفهم، وكثير من الظنون والاتهامات التي توجهها لذاتها، نسيت أن ابنها قد وصل إلى مرحلة المراهقة.
من الممكن أن تكون الأم غير مستعدة لهذه المرحلة، أو أنها لم تعلم كيف تستعد، ظنت أن الأمور ستسير على نحو مستقيم، ما بات عليه سيصبح عليه، ثم تفاجأت بمواجهة أكبر منعطف في الطريق، مرحلة جديدة تطرق أبواب البيت، وعلى الجميع التأهب لها..
لتبدأ الأم بسم الله الاستعداد لمرحلة جديدة، يجب عليها الاستعداد وأن تعي بأن الثمار التي زرعتها لم تفسد، وأن تربيتها في السنوات الماضية لم تضع هباء، وأن ابنها لم يتغير إلى شخص جديد، وأنه ما زال يحبها، حتى ولو أصبح لا يقولها لها ولا يطلبها منها مباشرة، حتى لو أصبح يتجنب حضنها، حتى لو أصبح يفضل الانفراد بذاته.
هو يمر الآن بمرحلة جديدة، يكتشف فيها نفسه، يظن فيها أن طفولته قد انتهت ويريد التصرف مثل الكبار من وجهة نظره، يريد أن يُكون آراء ويتخذ قرارات بذاته، ويعبر عن مشاعره بطرائق جديدة، ويريد أن يشعر أيضًا بأنواع مختلفة من المشاعر.
يكمن الخروج الآمن من تلك المرحلة بأن تعي احتياجاته حتى ولو اختلفت كثيرًا عما كانت عليه من قبل، أو أنه سينفذها بطرائق أخرى وعادة لن تحبها، نُشبع رغبته في تكوين الآراء بأن نُشركه في موضوعاتنا الخاصة، أو بأن نفتح معه موضوعات عامة، ونستمتع بالسماع لآرائه والثناء عليها، ولا نعطي أنفسنا الحق أبدًا بالحكم عليها، الآن نحن في وضع المناقشات الحرة.
سنصطدم بآراء لا نحبها، وأفكار تبدو دخيلة علينا، وعلينا حينها أن نسمع ونهدأ ونضع الرأي في الحسبان، حتى تتيح لنا الفرصة على نحو مختلف سرد الموضوع ومناقشته من منظور مختلف، وتقويم الآراء بطريقة غير مباشرة، علينا أن نفصل بين فرصته في إبداء الرأي، وبين فرصتنا في تقويم الرأي أو السلوك، حتى لا نصل لمشكلة أخرى حين يخاف أن يبدي رأيه حتى لا تنفجر في وجهه سلسلة من محاضرات التربية، التي تقتل داخله الأمان بإبداء آراء مختلفة أمامكم.
والحق بأن أحيانًا حين نفكر بآرائهم نجد أن فيها شيئًا من الصواب حتى ولو كانت تخالف ما اعتدنا عليه، لنجد أنفسنا نعدل آراءنا نحن لتتقبل اختلاف الأجيال وكسر القواعد والنماذج المصلوبة في أذهاننا (طالما كانت قواعد غير مبنية على الدين).
ثم نواجه مشكلة جديدة، كيف لهذا السن بأن يتخد قرارات بذاته، وتتجلى دواخلنا صورة الأم النرجسية وكيف لهذا السن أن يتخذ قرارًا من الأساس، نحن أدرى ونحن أعلم ونحن من لنا صلاحية اتخاذ القرارات حتى تشيب، والحقيقة أن من تفعل هذا تجد نفسها أمام سيل من القرارات التي لم تكن تتخيلها، حينها سيكون البعد قرارًا، والقسوة قرارًا، والصمت قرارًا، وإخفاء أصدقائه قرارًا، حينها يشبع الولد رغبته باتخاذ القرارات فيما لا تملكين السلطة عليه.
حين لا تسمحين باتخاذ القرارات أمامك، سيتخذها دونك، وحينها لن تجدي لذاتك مكانًا في حياته.
لا ينبغي أن نعين ذواتنا أصحاب ملك لأولادنا أبدًا، نحن لا نملكهم ولا نمتلك سلطة كاملة عليهم، واجبنا حمايتهم وهم يمشون الطريق الذي يختارون، علينا تقويم الطريق أحيانًا إذا وجدنا فيه خطرًا، أو ننبههم أحيانًا إذا وجدنا فيه صعوبة، علينا أن نعرض أمامهم الطرائق والاحتمالات ونترك لهم الاختيار والقرار، ونترك لهم حرية الرجوع وحرية الخطأ وحرية عدم الاختيار أيضًا إذا لزم الأمر، من أكبر القرارات إلى أصغرها، من مستقبله حتى وجبة العشاء، لا يحل لنا أن نفرض عليهم قرارًا، ومن يفعل ذلك سيكون الجاني والمجني عليه.
مرورًا بأكبر مشكلات المراهقة، نجد أن الحل في المناقشة، لتصبح هي الطريقة الجديدة لهم للتعبير عن مشاعرهم، لتجد ابنك غير مغرم مثلما كان في الأحضان، وإنما أصبح مغرمًا بجلسة صفاء تسمعيه فيها ويتحدث فيها عن نفسه، ومن منّا صغيرًا كان أم كبيرًا لا يروق له الحديث عن نفسه.
بداية الخيط ونهايته هنا، قد تَحوَل دورك الآن من المتحدث المُوجه إلى المنصت المتابع، اسمعي بحرص، وانتقي بذكاء وقت التوجيه، إذا شعر بالأمان من الحديث معك، سيمنحك الفرصة للتوجيه، لكن النسبة اليوم قد اختلفت، هو يريد أن يتحدث أكثر مما يستقبل، حين تحققين له النسبة المُرضية له، ستجدين منصتًا جيدًا حين تحتاجين إليه.
لنواجه مشكلة أخرى، عادة ما يتعرف الأبناء في هذا السن إلى أنواع مختلفة من المشاعر، وعادة ما تقف أمامها الأم مستنكرة أن ابنها بدأ يتعرض لها، وعادة ما تستنكرها، أو تواجهها بشيء من السخرية والاستهزاء "لعب عيال"، وينتهي بها الأمر أن ابنها يتجنب الفصح لها بمثل هذه الأمور، أو أنه ينساق لكلامها ويكبر دون أن يعي مشاعره ويتعرف إليها، كيف يكره؟ وكيف يحب؟ وكيف يغضب؟ وكيف يحزن؟ الاتجاهان مرعبان.
الأمر ليس هينًا، لكنه يحتاج إلى القليل من سعة الصدر، حين يحاول ابنك إخبارك بنوع جديد من المشاعر يشعر بها، أو حتى حين تبدو عليه المشاعر دون أن يُصرِح بها، كل ما عليكِ فعله أن تستمعي له، وتقري بمشاعره، وتعطي له الأمان بأن يعيش وأن يحكي، ثم تدلي عليه طبيعة المرحلة التي يمر بها، وتصنيف المشاعر التي يشعر بها، وحدود الأمور التي يجب ألا نتعداها تحت قيادة مشاعرنا، لا ينبغي أبدًا أن يسمع ابن الحادية عشر بأن الحب حرام لينشأ على إظهار كل مشاعره عدا الحب، أو تنشأ بنت على أن الرجال مرعبون، وعلينا معشر النساء ألا نقترب منهم، فتنشأ وهي تضطرب من وجودهم، ليؤثر ذلك على مستقبلها العلمي والعملي والأسري، لا بد أن يدركوا بأن المشاعر حقيقية، وأننا خلقنا بتلك المشاعر لنعمر الأرض ولولا تلك المشاعر ما كنا هنا، لكن الإفصاح بها والتعامل على أساسها له حدود نأخذها من ديننا أولًا ثم ثقافتنا وحسب ظروف حياتنا.
وأخيرًا، لكل أم تواجه مشكلات المراهقة، استفتِ قلبك، ابنك ليس بعدوك وليس بفاسد، ولا يبحث إلا عن سعادته بفطرته، لا يبحث عن الخطأ ولا عن الحرام، اسمحي له بالبحث وأنت بجانبه ولا تملي، اسمحي له بالانطلاق تحت أنظارك، حاولي التقليل من دور المفتش كرومبو، وحاولي التقليل من تتبع الأخطاء، وحاولي التقليل من الرفض دون أسباب، عززي رفضك حتى يتقبله، ودائمًا ارفضي لسبب اشرحيه له واقنعيه به، لتتحققي من أنه سيرفض هذا دائمَا وأبدًا بوجودك أو غيابك، لو كانت فتاة، اغمريها بحنانك وحبك إلى ما لا نهاية، والأهم والأولى ادع الله لهم ولك بالتوفيق والسداد.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.