كانت أمي تطهو لنا فطيرة اللحم كلما اشتقنا لطعام دسم.. لقد كنا نمرح ونسعد بها، ولكن عيبها الوحيد أنها كانت تضع كثيرًا من التوابل والبهارات الحارة.
وكان لها طقوس خاصة جدًّا جدًّا حين تدخل المطبخ، فهي لا تحب أن يشاركها أحد في هذا اليوم وتنهرنا بشدة لو حاول أحد من إخوتي أن يدخل هذه المملكة.
إلا أبي.. فكان يدخل على استحياء مطأطئًا رأسه، فكانت أمي تشاكسه وتقول له: لا تحاول أن تمد يدك على شيء فأنا أعرف ماذا تريد.
ثم تحضر له كوبًا من شاي ساخن ونحن ننظر لهما من الخارج. نحن نعلم أن هذا الحوار يتكرر دائمًا، ويأخذ أبي كوب الشاي ولا يتكلم ولكن ينظر لها، فتنظر له أمي قائلة: أرجو أن لا تغضب مني؛ لقد نسيت أن أشتري السكر اليوم.
ولكن لا تغضب فهناك كعكة محلاة من أول أمس تستطيع أن تأكلها مع الشاى حتى أنتهي من الطعام.
كنا ننظر إلى أبي ولا نستطيع أن نفهم معنى تلك النظرة في عينيه. كنا نلتف حول أبي طمعًا فى قطعة من تلك الكعكة. وقبل أن يمد أبي يديه لتقسيمها تأتي أمي مسرعة وتقول: هذا لا يجوز.. هذا نصيب أبيكم.. اتركوه حتى لا يغضب مني بسبب نسياني للسكر.
فكنا نخشى أن يغضب عليها علمًا بأننا لم نره غاضبًا يومًا من الأيام.
فيبتسم أبي لها ويجلس ليستمع إلى الراديو القديم ونحن نستمتع برائحة الطعام الذي يأتي من المطبخ.
كنت أحاول أن أختلس النظر إلى المنضدة الصغيرة التي بجوار المشعل ذي العين الواحدة، فكانت تفطن لوجودي فتقف أمامي لتسد مجال نظري وتقول لي: ماذا تفعلين هنا أيتها الشقية الصغيرة؟
فكنت أجيب وعيني تسافر في أرجاء المكان: أريد أن أرى اللحم وأنتِ تطهين!
فتقول: هكذا تريدين إذن؟
أقول: نعم!
فتقول: حسنًا ولكن أريد منكِ معروفًا، ولا أحد من إخوتك يستطيع أن يفعله؛ فأنتِ أذكاهم وأشطرهم.
فأبتسم فخرًا بمدح أمي الغالية فتقول: اذهبي إلى الخالة فلانة جارتنا واطلبي منها بعض الملح. فكنت أفرح وأذهب؛ فأنا يد أمي التي تعتمد عليها في تلك المهام الصعبة.
ثم أعود إلى أمي بعد أن أنجز المهمة، ثم تطلب مني أن أطلب من إخوتي الهدوء حتى لا نزعج أبي العائد من العمل الشاق، وهكذا حتى أنسى ماذا كنت أريد منها.
ثم تفاجئني وتقول: قطتي الصغيرة.. أرجو أن لا تغضبي مني.. لقد نسيتُ أن أُريكِ اللحم قبل الطهو، فهل أنتِ غاضبة مني؟
فأنظر إليها وهي منحنية حتى تنظر في عيني فأبتسم وأقول: لا يهم سوف أراها بالفطيرة.
كل هذا وأبي يتابع كل شيء في صمت وهو يحتضن إخوتي الثلاثة، ولدين وبنت أصغر مني، بحنان ولكن كان ينظر إلى أمي بحب وعطف لم أرَ مثله.
كنت أعتقد أنه مثلنا ينتظر يوم الفطيرة باللحم كل أسبوع فأمازحه وأقول: أبي.. سوف آخذ القطعة الكبيرة؛ فأنا من ساعد أمي اليوم. فيبتسم ويقول: حسنًا.
ثم تضع أمي الطعام.. تلك الفطيرة الطيبة ذات الرائحة الرائعة.
ونبدأ الطعام بشهية. ثم ألتفت إلى أمي وأقول لها: أمي.. إنها حارة جدًّا جدًّا. فتقول: هي ساخنة جدًّا.. اصبري حتى تبرد. وهي تعلم أني ليس عندى صبر، فأنا وإخوتي ننتظرها كل أسبوع.
أقول: يا أمي.. لماذا طعامك جميل وليس له مثيل؟ فتقول: لأنه مصنوع بقلب.
فأقول: ماذا تضعين عليه؟
فتقول: أضع عليه حبي.
ثم تقول أمي: عندي لكم مفاجأة أخرى!
فنقول: ما هي؟
فتقول: فطيرة محلاة بالعسل الأسود!
نفرح ونرقص. ثم تميل أمي على أبي وهي تعطيه سيجارة، فينظر لها مندهشًا ويقول: من أين لكِ بها؟! فتقول: كنت عند جارتي وهي تدخن وأنت تعلم، وحين تعزم علي بواحدة آخذها حتى أعطيها لك.
فيضحك وتضحك.
اليوم تذكرت هذا وأنا في أحد أفضل المطاعم وأطلب فطيرة اللحم، ولكن ليس كمثل فطيرة أمي.
لم تكن أمي وأبي يملكان ثمن اللحم، ولكن كانا يملكان أن لا يشعرانا بأي نقص.
لم أسمع يومًا أمي تشتكي أو تغضب من قلة ذات اليد، بل كانت تتحمل مسؤولية كبيرة، كانت تنظر له على أنه بطل يعمل ما عليه وهي تنصاع له دون تقليل من شأنها.
أمي كانت من أسرة أغنى من أسرة أبي ولم تشعره بهذا أبدًا، وكانت ترفض أي تدخل من أهلها، وكانت تقول: كرامة زوجي وأبنائي هي مالي وما لديَّ.
أنا وإخوتي الآن في مناصب قيادية، ولكننا كل خميس نذهب لنأكل فطيرة اللحم من يد أمي، محلاةً بعرق أبي الذهبي.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.