قصة «غربة نفسية».. ج2

نبدأ من حيث انتهينا في الجزء السابق..

...........

أتتني الصغيرة في زيارتها التالية، وهي أهدأ حالًا من زيارتها السابقة، لكن ما زالت تعلوها الدهشة، وعلامات التساؤل.. وقالت: الآن بعد أن أخبرتني أن صعوبات الحياة ضرورة لا بد منها، وهي إنما تحدث لنتعلم منها درسًا، فماذا إن لم أفهم الدرس؟ أو ربما لا أدرك أصلًا أن هناك رسالة من وراء الأحداث عليَّ فهمها والتعلم منها.

فقلتُ لها: أنا سعيدة حقًا بهذا التقدم الذي تسيرين به.

فاندهَشَتْ مُتسائلة: عن أي تقدم تتحدثين وأنا ما زلتُ تائهة ولم أدرِ شيئًا بعد؟

فأجبتها مبتسمة: ألم تلاحظي بعد؟ لقد تغيَّرت طريقة تفكيرك يا صغيرة، والدليل على ذلك هو سؤالك، فقد أصبحتِ تتساءلين عن الحلول بعد أن كنتِ لا تركزين إلا على المشكلة فقط، وهذا بالضبط ما يفعله بنا الإدراك، فهو يأخذنا من جانب الضحية الغارقة التي لا تدري أين تسير بها الحياة، إلى جانب الوعي الذي ينير لنا دربًا صحيحًا نسير فيه على هُدى.

الآن سأُخبرك بأن المشاعر هي شيء طبيعي وفطرة أوجدها الله تعالى في كل إنسان، وبالطبع لم يخلقها الله عبثًا، حاشاه. فكما هو مهم أن نشعر بالفرح كذلك الحزن شعور مهم، وكما أن الأمان ضرورة واحتياج بشري مهم، فالخوف لا يقل عنه أهمية، وإلا فكيف ستفرين هاربة من كلب شرس ينبح ويركض خلفك إن لم تستشعري الخوف، فينبعث الأدرينالين منك فتزداد سرعتك في الفرار؟

فالمشاعر بكل ما تحويه من تنوع أوجدها الله فينا لحكمة، وعلينا ألا نقاوم أي شعور وإنما نتركه يأخذ وقته ويؤدي رسالته ثم نسمح له بالرحيل، كلٌّ في موضعه بلا إفراط أو تفريط.

فالغرق في أي شعور هو سبب كثير من الأمراض والمشكلات والأزمات، فما أن يترك المرء دفة القيادة لشعور بعينه ويستسلم له حتى يقوم العقل أيضًا بدعمه لهذا الشعور ويبدأ في عملية اجترار كل ما مرَّ من أحداث في الماضي البعيد على شاكلة ذلك الشعور، فتبتلع المرء دوامة من الأسى ومزيد من الألم يعانيه الإنسان لا يدري كيف يخرج منه، وهنا يصبح الحزن شبحًا يبتلع المرء يجعل نظرته للحياة بأسرها سوداء لا خير فيها ولا منها، وهنا لا بد له من طلب المساعدة من مختص ينير له دروب الحياة من جديد، ويريه أن الحياة لها ألوان أخرى، وأن هناك ألف سبب يحيا من أجله، وأن له دورًا يستيقظ كل يوم بحماس لأجله.

الآن أُجيب عن سؤالك. فحينما تحتارين في معرفة الأسباب والنتائج والدروس التي ينبغي أن تتعلميها من تحديات الحياة... فعليك الإجابة عن بعض الأسئلة:

‌بماذا أشعر الآن؟

وهنا تسترسلين في إفراغ كل ما تشعرين به الذي قد يكون شعورًا واحدًا أو شعورًا مركبًا من أكثر من واحد.

‌لماذا أشعر بذلك الشعور؟

وحينئذ تسردين الموقف الذي سبب لك ذلك الشعور، وقد تكتشفين أن الموقف صغير ولكنك بالغتِ قليلًا، وأن الأمر لا يستحق منك كل هذا الحزن، وربما هي كلمة قد قيلت من مُحب فلا يقصد بالطبع أن يُشعرك بالأسى، وربما قيلت من شخص فظ سليط اللسان وهذا طبعه مع الجميع وليس الأمر شخصيًا معك، وإنما هي طباع الناس، وهي خارج دائرة تحكمنا، فلا تلقي لها بالًا وامضِ في طريقك.

‌ما الشعور الذي أحب أن أشعر به؟

بلا  شك ستكون الإجابة بعكس ما تشعرين به الآن، فمثلًا أحب أن أشعر بالسعادة، أو السكينة، أو الأمان، أو القوة، أو النجاح، وبلا شك أنا أستحق ذلك الشعور.

‌ ما الذي يجعلنى أشعر بالشعور الذي أريده؟

وحينئذ تستطردين بذكر كل شيء قد يشعرك بالسعادة مثلًا أو تذكرين موقفًا كنت فيه في غاية السعادة، أو مكانًا يُشعرك بالسعادة، أو طعامًا معينًا، أو حتى مشروبًا مفضلًا يُشعرك بالسعادة.

هنا قاطعتني الصغيرة متسائلة: هل معنى كلامك أنني أستطيع التحكم بمشاعري واستبدال شعور بآخر؟

فأجبتها مُطمئنة: أجل بالطبع، فالعقل العاطفي يمكن أن نخدعه بسهولة حين نبدأ بالتفكير بوعي ونقوم بإشعال العقل التحليلي الذي يفكر تفكيرًا منطقيًّا، وهذا يباشر العمل، ما إن تتناولي دفترك والقلم وتباشري بالكتابة والإجابة عن تلك الأسئلة، حينها يستلم العقل التحليلي دفة القيادة بدلًا من العقل العاطفي الذي قد يغرق بسهولة في شعور يهلكه.

الآن لا بد أن أخبرك أن ليس كل الأسئلة لديك إجابتها، ولا كل موقف لا بد أن تدركي رسالته في حينها، فهناك أمور عليك بالتسليم فيها لله عز وجل، فالأسباب على مُسبب الأسباب، وتستسلمين طواعية وبكل راحة بأن لمجريها عليك حكمة، وليس بالضرورة أن تعلميها بعلمك المحدود وحكمتك البشرية الضئيلة، وقد تدركينها بمرور الوقت، فهناك ثمار لتجاربنا تحتاج مدة لتنضج وتصبح جاهزة ونُصبح نحن أيضًا مستعدين للتعلم.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة