وقف في الصف الممتد بطول صبره، تأمل الوجوه التي أمامه، ذلك الشاب ذو الغمامة والعصا المعقوفة، لا بد أنه باع بقرته ليغادر وطنه..
ربما هربًا من شيء ما.. ضيم اجتماعي أو علاقة حب فاشل أو أرض ضنت بالعطاء حين أصبحت السماء من ذوي الإربة لا تسقى ولا توعد، أو ربما إحساس بالعجز اجتاحه عندما طالبوه بسالف من نظام اجتماعي أبدي النفاق، عجز الزمان عن غسل رذائله لماشيته المنهوبة، إن كان هذا أو ذاك أو ليس بهذا أو ذاك.
قد يكون هاربًا من نفسه في تناقضاتها الشتى، فهي متدينة تتصالح مع السالف، فهي كريمة وذات مروءة وعلى استعداد أن تتخطى العشرات في الصف أمامها في أبهى حال الأنانية..
فهي ودودة مع الصبايا، تضرب شقيقته بغضب عندما أهملت في نظافة ملابسه.. هذه النفس تبذل أموالها على غير أصحابها حين قهوة وتبخل على عائلته ببنت شفة طيبة.
أمام هذا البدوي على الصف، شابٌ يبدو جسده المترهل في بنطاله الضيق كإناء ممتلئ بالحليب المغلي على نار متقدة يوشك على الانسكاب، يتأفف بوهن وضعف كأنه يطلب من الآخرين مساندته في ضجره ثم يترك الأمر لهم جبنًا ويتفاخر بعدئذ أنه أول من بادر..
هل تساءل عن ماذا يبحث في غربته المرتقبة، ليس المال بالتأكيد هو المرتجى، يبدو من شدقيه الموردين وعطره الفاخر أن حاله ميسور.
هل سيتسق مع ذاته في الغربة ؟ هل عندما يتوقف على شارة حمراء بطريق بلاد الغربة سيتذكر ذلك الشرطي المرهق في وطنه كذبًا، كيف هاجمه واستمتع بذلك عندما أربكه.. إذ أوقفه عندنا تجاوز الإشارة بذات اللون الدامي..
كيف تعالت عليه تلك المرأة في الصف ذات الملامح الطيبة والعمر المفترض قد تجاوز ثلاثة من أرباعه، تحمل مسبحة وستة من الشلوخ وسط تجاعيد عشوائية كما تحمل ملامح تقوي مؤقتة، لا بد أنها مغادرة لأداء مناسك العمرة بدعوة من بنتها المقيمة، تنبئك ملامح وجهها بإيمان سوداني يعلو وينخفض وفقًا للبيئة المحيطة، فهو في قمته وهي في طريقها للاعتمار تداعب أناملها حبيبات المسبحة وينطق اللسان بالذكر، ولكن القلب والفكر يعد ويخطط لتفاصيل العودة إلى القرية.. الإعلان بالعودة، طلاء البوابة والكتابة عليها، الدعوة للوليمة، فهذه التفاصيل تأخذ حيزًا في القلب أكبر من حيز أداء المناسك، وهذا الإيمان السوداني ذو الطقس سريع التقلب يكون في أدنى درجاته مع صويحبات الجيرة.
فالحديث لا يحلو إلا عن مناقب الآخرين الغائبين، تلك الصبية التي تحمل مع حقيبتها الصغيرة إصبع شيكولا، تخرج عن الصف قليلاً ليراها الجميع كأنها تتوقع أن يومئ لها أحد العاملين فتتجاوز الصف وقد كان، تبدو معتادة على السفر، دعك من وصف ملامحها فربما لا تعرف الملامح الحقيقية وسط منتجات المصانع الأجنبية، دعك مما ترتديه ومما لا ترتديه فقد يسرك وقد لا . قد تكون مقيمة في إحدى دول الغرب أو إحدى دول العرب..
الغرب، مؤكد لا أحد يسأل ماذا تمتهن وماذا ترتهن، وإذا فتح فم ليتساءل تحشوه بالدولار المحشو بالأرز المبخر فيغلق حامدًا ويموت القلب والقيم وصورة وطن دامٍ.. فرغم هذا وذاك، وبسمة طفل في الخيال فها هو ينتظم في الصف آملاً أن يغادر.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.