يقول عنتر: في صباح اليوم التالي ذهبت إلى العمل كعادتي، وفي طريقي إلى العمل أحسستُ بوجود شخص ما في سيارتي، حيث كانت تفوح رائحة عطر نفاذ في السيارة، ولكني لم أرَ أحدًا. ربما يكون حارس العقار قد غسل السيارات ووضع بعض العطور داخلها، فالمسألة لا تستحق كل ذلك التفكير. وفعلًا قُدت السيارة مسرعًا إلى العمل، وقد كان يومًا مثقلًا بالأعمال، ولكنني شعرت بالإجهاد الشديد، فتوجهت بالكاد إلى سيارتي.
وبعد أن أغلقت الباب سمعت حركة غريبة خلفي، وكأن شخصًا ما يجلس على الأريكة، ولكني لا أرى شيئًا. وعندما أدرت السيارة للانصراف، رأيت سمة وجه في مرآة سيارتي يبتسم لي... إنها فتاة رائعة الجمال.
قلت لها: من أنتِ؟
قالت: أنا كريمة.
قلت: كريمة... كريمة... أنا الآن تذكرت، أنتِ كريمة جارتنا.
قالت: نعم، أنا جارتك.
قلت: كيف عرفتِ مكان عملي وما الذي أتى بك إلى هنا؟
قالت: لأنني كنت أراك من قبل، لأن عملي هنا بجوار شركتك.
قلت: أهلًا وسهلًا بكِ آنسة كريمة. سعدت بمعرفتك، لكن كيف دخلتِ السيارة؟
قالت: السيارة كانت مفتوحة، ربما أنك نسيت إغلاقها.
قلت: لكن أنا دائمًا أغلقها جيدًا، ربما نسيت اليوم لأنني كنت متأخرًا إلى حد ما.
قالت: صحيح، لأنني رأيتك في الصباح الباكر من الشرفة تجري مسرعًا، حتى إنني كدت أصيح وأنادي عليك، لولا أنني شعرت أن ذلك لا يصح لأن الوقت غير مناسب.
قلت: شكرًا لاهتمامك، لكن لا عليكِ... دعينا من كل ذلك... كيف حال ابنك عيسى ووالدتك؟
قالت: الحمد لله هم على ما يرام، ولكني مشغولة هذه الأيام بشقيقتي لأنها تقيم بالمشفى بسبب حادث وقع لها.
قلت: لا حول ولا قوة إلا بالله، سلامتها ألف سلامة، وإن شاء الله قريبًا تخرج بالسلامة.
قالت: الله كريم. ها نحن أستاذ عنتر وصلنا أخيرًا إلى المنزل، استأذنك الآن، سلام.
قلت: سلام آنسة كريمة، أرجو أن أراكِ مرة أخرى، سلامي لوالدتك وعيسى.
قالت: الله يسلمك.
صعدت إلى المنزل، واتجهت مسرعًا إلى المطبخ حيث شعرت أني أتضور جوعًا، فوجدت الطعام ملقى على الأرض بغرابة. ثم سمعت وكأن قطة تنونو في الطرقة المقابلة للصالة، فتعجبت كيف بها تصل إلى هنا وأنا في الدور الثالث؟ ربما صعدت من بلكونة المطبخ في الدور الثاني أسفل مني.
ياه... إنها قطة جميلة جدًّا، ما أروعها! لا أتخيل نظافتها وعيونها الزرقاء اللامعة. غريبة كيف تقفز وتجري على المواسير ولا تزال نظيفة بهذا الشكل! هل يكون حديث جارنا صحيحًا، ويكون العقار مسكونًا بالجن الطيب؟
واضح أني مصاب بهلاوس من جراء ضغوط العمل. ولكن كريمة أيضًا جارتي... ما حكايتها؟ وما الذي جعلها تدخل سيارتي دون إذن؟ إنها إنسانة غريبة حقًّا، لكنها شديدة الجمال والبراءة. ولكن ما قصة شقيقتها التي ظهرت فجأة؟ ما هي قصة كل تلك الألغاز؟
ماذا أفعل الآن؟ أنا جائع والقطة أفسدت كل شيء. آه، لا داعي لكل هذا القلق، فيمكن أن أعد بعض المكرونة، فهي سهلة جدًّا. ولكن القطة لا تزال تعبث في كل شيء... يجب أن أطردها وأغلق كل الأبواب والشبابيك حتى أتناول الطعام. وبعد ذلك إذا أرادت تأتي مرة أخرى فلها ذلك.
هيا يا قطتنا... هيا اخرجي... تعالي لأحملك إلى الباب ثم تخرجي... ها... ما هذا؟ أين القطة؟... بسبس... بسبس... أين ذهبت؟... كيف خرجت؟... هل تكون قفزت من الشباك دون أن أشعر؟... ربما دخلت تحت السرير أو الكراسي. لا يوجد لها أثر في المنزل.
يبقى الآن أن أذهب لأغلق باب شرفة المطبخ وشبابيك المنزل كلها حتى أعد الطعام وأتناوله في هدوء.
أعددت الطعام وتناولته بأسرع ما يمكن، ولم يأخذ مني ذلك سوى ساعة إلا ربع. وتوجهت مباشرة لكي أنام بعد يوم مملوء بالمفاجآت، وقد غرقت في النوم كأنني لم أنم من قبل، ولم أستيقظ إلا في صباح اليوم التالي في الساعة السادسة على صوت المنبه.
بدأت أجهز ملابسي وأوراقي للذهاب للعمل، ودخلت الحمام لغسل وجهي وأسناني، وفي أثناء وقوفي أمام الحوض وفي أثناء تنظيفي لأسناني سمعت صوتًا يخدش على الحائط. وفجأة وجدت القطة معي داخل الحمام!
كيف دخلت المنزل مرة أخرى وقد أغلقت أمس كل الأبواب والنوافذ؟ ربما كانت مختفية داخل الشقة دون أن أراها أو أشعر بها. ولكن كيف تركتني أعد الطعام وأتناوله؟ وكيف لم تزعجني وأنا نائم كأنها مثل إنسان هادئ يخاف أن يوقظني أو يسبب لي ضوضاء؟ ما هذه القطة الغريبة!
وصلت إلى المكتب في تمام الساعة الثامنة والنصف كما أفعل كل يوم. ولقد هالني عم محروس، رجل الأمن، عندما أخبرني بأن فتاة جاءت إلى الشركة وسألت عن اسمي، وهي تبدو مريضة جدًّا لأن وجهها شاحب ويديها ترتعش. قلت له: ما اسمها؟
قال: اسمها نجوى.
قلت: نجوى؟ من نجوى؟ أنا لا أعرف أي فتاة بهذا الاسم، سواء من الأقارب أو زملاء العمل أو حتى الجيران. بالتأكيد يوجد خطأ ما يا عم محروس.
قال عم محروس: لا يا فندم، ليس خطأ، وهي تركت لك رسالة... ها هي الرسالة... يمكنك أن تقرأها بنفسك.
قلت: شكرًا لك... سأقرؤها بالتأكيد بعد انتهاء مواعيد العمل.
أغلقت باب المكتب بإحكام وجلست على مكتبي. فلم أستطع الانتظار حتى نهاية اليوم، وفتحت الرسالة، فوجدت فيها استغاثة من كريمة ونجوى شقيقتها. لكن لا أعرف استغاثة من ماذا؟ وما الذي جعلهم يفكرون بي على وجه الخصوص؟ إنهم لا يعرفونني جيدًا. يوجد شيء غير مفهوم.
عدت إلى المنزل بعد يوم شاق من العمل، وبعد أن فكرت بعض الوقت في الخطاب الذي وصلني اليوم، قررت أن أتوجه إلى منزل كريمة.
نزلت إلى الدور الأرضي، وطرقت الباب، ففتح لي عيسى، فسعدت به كثيرًا وحملته على كتفي. ثم جاءت كريمة والدته وسلمت عليَّ وعرضت عليَّ الدخول. فدخلت وأنا أشعر بتفاؤل غريب لأن كريمة لم تكن فتاة عادية، ولكنها من الأشخاص الذين يشعر الإنسان معهم بالطمأنينة، حيث يظهر على وجهها البراءة والنقاء. ومن ناحية أخرى، هي إنسانة جادة ليست مثل الفتيات التافهات.
قلت لها: أستاذة كريمة، إذا سمحت لي، هل يمكن أن تشرحي لي مشكلة شقيقتك؟ وما سبب استغاثتكم بي وأنا لا أعرفكم؟ ألا ترين أن الأمر يبدو غريبًا؟ هل تسخرون مني؟ ما الذي يحدث؟ من فضلك أرجو توضيح كل شيء الآن. ألا يعد ما تقومون به مريبًا؟
قالت: لا... ليس مريبًا ولا غريبًا لأننا نعرفك. في الأقل شقيقتي تعرفك وكانت تتكلم عنك كثيرًا. وليس هذا فقط، بل كانت تعرض علي صورك.
قلت متعجبًا: صوري أنا؟ كيف تصورني شقيقتك دون إذن؟ ما هذا؟ ألا تعرفون أن ذلك مخالف للقانون يا أستاذة أنتِ وشقيقتك الغريبة؟
قالت: بل أنت الذي أمددت شقيقتي بهذه الصور عندما كنت في عملك السابق.
قلت: عملي؟ أي عمل سابق؟ أنا كنت في إنجلترا.
قالت: نعم إنها عرفتك في أثناء عملك بالمصحة النفسية في لندن.
قلت: لندن؟ شقيقتك كانت في لندن؟ آه... أنا آسف جدًّا على إساءة الظن بكما.
قالت: لا عليك... أنا مستحيل أن أغضب منك لأنك كنت سببًا في تقدم حالة نجوى، وكانت ستقترب من الشفاء تمامًا لولا أنك سافرت.
قلت: لكن... أرجوك، أنا لا أتذكر اسمها. أرجو أن ترشديني لدليل آخر يسهل لي معرفتها.
قالت: نجوى كانت تعاني اكتئابًا ذهانيًّا مزمنًا، وكانت تحاول دائمًا الانتحار. والآن هي في حالة انتكاسة. وليس هذا فقط، بل يوجد مرض آخر لن يغيثها منه إلا أنت.
قلت: الله غياث المستغيثين... لكن ألا تخبريني بالمرض؟
قالت: يقولون إنهم لم يجدوا تشخيصًا له حتى تلك الساعة.
قلت: وهل تعتقدين أنني من جهابذة الطب النفسي لأكشف لكم عن هذا المرض الذي يجهله أساتذة الطب، وأنا الذي سأكشف لكم الغموض؟
قالت: ليس لسبب طبي فقط، بل هناك سبب خارق للطبيعة.
قلت: ما هذه الخرافات؟... هههههههههههههه... وما علاقتي أنا بصفتي باحثًا وطبيبًا بكل هذا الهراء؟ هل أصبحتم مجانين نتيجة لترددكم على المصحة النفسية؟... لقد جننتم بكل تأكيد!
قالت: شكرًا لك مستر عنتر على ذوقك، وعلى أي حال... أنت حر، سواء أكملت دعمك لنا أم لا.
قلت: أرجوك... سامحيني على كلماتي، ولكن ما يحدث أمر غريب، بالإضافة إلى أنني لم أستطع تذكر شقيقتك حتى الآن. أرجو أن تأخذيني لزيارتها الآن إذا أمكن.
قالت: سآخذك غدًا بكل تأكيد، وفرصة كبيرة أننا في إجازة نهاية الأسبوع.
قلت: أقابلك غدًا الساعة التاسعة صباحًا.
قالت: سأكون بالانتظار.
صعدت إلى منزلي وأنا أشعر بارتياب شديد، وفي ذات الوقت ضميري يحدثني بأن واجبي يقتضي مساعدة كل المرضى مهما كانت حالتهم. ولكن الإجهاد لم يمهلني الوقت لكي أفكر في أي شيء، حيث غلبني النعاس وغطت في نوم عميق.
في صباح اليوم التالي استيقظت على صوت المنبه في تمام الساعة السابعة، واستعددت تمامًا لمقابلة شقيقة كريمة، وقبل أن أنزل إلى أسفل سمعت عيسى ينادي من النافذة، فنزلت مسرعًا له. وقد كانت تغمره السعادة لكونه سيخرج معي أول مرة أنا ووالدته.
قلت: أرجو منك أستاذة كريمة أن ترسلي موقع المستشفى التي تقيم بها شقيقتك حتى أستطيع تحديدها على الخريطة والوصول إلى المكان بسهولة.
قالت: على الرحب والسعة.
ترجلنا السيارة متوجهين أنا وكريمة وعيسى إلى مستشفى (الأيادي الذهبية)، وفي الطريق أخذ عيسى يغني أغنية جميلة عن القطة. فابتسمت متسائلًا: هل تحب القطة يا عيسو؟
قال: أحبها جدًّا عمو، وخالتي أيضًا تحبها لدرجة غير عادية... حتى أنها كانت س...
تدخلت كريمة: عيسى... هل تستمر هكذا في الثرثرة والهزل إلى النهاية؟
قلت: أستاذة كريمة، من فضلك اتركيه يستكمل حديثه. هو كان يريد أن يقول شيئًا... لماذا تمنعيه عن الكلام؟
قالت: أنا لا أمنعه... لكنه يثرثر كثيرًا بموضوعات عبثية.
قلت: العكس أستاذة كريمة... هو طفل ذكي وماهر... لا تصديه.
قالت: حاضر مستر عنتر، لن أقاطعه.
أخيرًا وصلنا إلى المستشفى. دخلنا إلى صالة الاستقبال، وقد توجهت كريمة وعيسى مباشرة إلى المصعد، ودخلت معهم حيث ضغطت على الزر الثالث، ثم خرجنا إلى ممر طويل، وسرنا فيه إلى الحجرة رقم 37 حيث تُعالَج نجوى. ثم طرقت كريمة الباب، ففتحت الممرضة الباب واستقبلتنا بحفاوة.
دخلنا إلى حجرة شديدة الاتساع وبها شرفة كبيرة جدًّا، حيث كانت نجوى تجلس في الزاوية اليمنى من الشرفة وهي تتصفح الصحيفة وتسمع المذياع (الراديو).
استقبلتنا نجوى بابتسامة هادئة، حيث بدا على وجهها الشحوب والحزن، وقد شعرت أنها كغريق يتعلق بقشة صغيرة.
قالت نجوى: أخيرًا مستر عنتر... أنت في القاهرة. لقد بحثت عنك كثيرًا.
قلت: يشرفني مسز نجوى أن أكون طبيبًا ذا بصمة عند مرضاه. الآن أنا أتذكرك جيدًا، لقد كنتِ من نزلاء قسم الاكتئاب المزمن، وقد أنقذتك في إحدى المرات من الانتحار. وكنتِ شغوفة بدراستك في علم الفيروسات والبكتيريا، حتى أنك كنتِ تتمنين أن تصبحي مخترعة لأحد المضادات الحيوية التي يمكنها القضاء على البكتيريا تمامًا بحيث لا يستطيع الفيروس إعادة تطوير آلياته ومقاومة المضاد الحيوي... أليس كذلك؟
قالت نجوى: نعم مستر عنتر، أنت تمتلك ذاكرة ممتازة... كانت أيامًا...
قلت: إن شاء الله ستتعافين قريبًا، ويكتب العالم بأسره اسمك على أغلفة المجلات لكونك أعظم عالمة تخترع مضادًا حيويًّا يقضي تمامًا على كل أنواع البكتيريا.
قالت نجوى: شكرًا مستر عنتر على كلماتك الرقيقة، لكن المرض لم يعد يسمح بذلك.
قلت: دع عنكِ هذا اليأس، فلن يحدث إلا ما أراده الله.
قالت نجوى: بالتأكيد مستر عنتر.
قال عيسى: خالتي... لا تنسي أن تقصي عليه قصة القطة وما حدث في الحديقة...
قلت: قطة؟ حديقة؟! ما هذه اللوغاريتمات؟ أرجو توضيح كل شيء...
للقصة بقية...
في انتظار الجزء الثالث
إن شاء الله ، شكرا لمرورك الكريم
شكرا لك
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.