عاشق الكلمات، ذاك الرصين قليل الصحبة، يعيش بمفرده، يفضل العزلة عن ثرثرة في جمع لا يفيد، يصاحب القلم، ينطلق به عبر الأوراق، يسافر ويعود ويبحر بين الكلمات، يشتاق بأمانيه إلى تلك التي سكنت فراغ وحدته دون رؤياها.
حلم اليقظة الذي اعتاد عليه منذ سنوات، تلك الصورة التي منذ حينها لا تفارقه أبدًا، وكم بات يتخيَّل أول لقاء يجمع بينهما، صورتها واضحة له وضوح الشمس.. يتيقن أنه يحدثها وتحدثه، حتى إنه خطر بباله اسمها، حتى أصبح اسمها منبت كتاباته.. خيالات يبحث فيها عن واقعه.
تبدأ رحلته وعزلته في تمام العاشرة، موعد وجبته الغنائية ولقائه اليومي مع الطرب الجميل والغناء العربي الأصيل، يصطحب أوراقه وأقلامه وفنجان قهوته.. جالسًا بشرفته مستمتعًا الليلة بسيدة الغناء العربي.. سابحًا بخياله مع الألحان والكلمات ويدون بأوراقه ما خطر بباله من كلمات شعرية أو نثرية.. دائمًا يتذكر تلك البشوش ذات الوجه الملائكي التي لم يحظ منها باللقاء إلا في مخيلته.. حالمًا يقظًا بقربها.
جلس في تلك الليلة مستمعًا إلى كلمات (الحب كله)، وما أروعها من كلمات:
الحب كله حبيته فيك
الحب كله
وزماني كله أنا عشته ليك
زماني كله
حبيبي قول للدنيا معايا
ولكل قلب بدقته حس
يا دنيا حبي وحبي وحبي
ده العمر هو الحب وبس
واسقيني واملأ
واسقيني تاني
اسقيني تاني من الحب
منك
من نور زماني
اسقيني يا اللي من يوم ما شفتك
حسيت كأني اتخلقت تاني
مع الكلمات متيمًا، وكأن بقلبه ما يسكنه على الرغم من وحدته ويشعر بها وكأنها تستمع معه تلك الكلمات، يشعر تلك الليلة بوجودها وقربها منه أكثر، وقف يناديها بخاطره علَّه حان اللقاء.
وفي حينها، وبالشرفة المقابلة، كأنها تسمع نداه. تخرج هي، وما أدراك ما هي! وجه ملائكي لجسد بشري.. لفت انتباهه ذاك الضوء الساطع من شرفتها، أطال النظر إليها محدثًا متعجبًا يا له من جمال.
نظر لأعلى حيث اكتمال القمر ويعود فينظر إليها وهي تهدي ورودها رذاذ الماء لينتعش وتمحو صورته الباهتة ليتراقص بمظهره الخلاب.. وما زال هو يتيقن أيهما القمر: هل هذا الذي في السماء أم هي ساقية الورود؟ تذكر أحلامه وصاح بداخله: أنت، نعم أنت.. أنت زهرة أحلامي.
أمعن النظر وأطال قائلًا: هي، نعم هي، تلك حلمي الذي طالما حلمت به، ودون أن يلفظ لفظًا ناداها بخاطره متوسلًا أن تنظر إليه.
وكأنها تسمع وتشعر بما أراد، نظرت إليه بكل دلال وتعفف.. فتراقص قلبه فرحًا.
تلاقت العينان وخفق القلبان، يشعر بها وتشعر به، وكانت النظرات أصدق من كل الكلمات، نبت الحديث تخاطريًا بينهما قائلًا: تودد، اسمك تودد، أصبتِ يا خاطفة الفؤاد؟
أمعنت النظر إلى مقلتيه ليسمع جوابها: نعم، تودد، وأنت فارس. هل أصبتَ يا فارس الفؤاد؟
عاد إلى الأوراق سريعًا يبحث بها وينبش كالديك الشرس ليصل إلى قصيدته التي كتبها باسمها في تلك الليلة.
كانت تنظر لما يفعل ولا تفهم. حتى نظر إلى عينيها مجددًا لتسمع خاطرًا يقول لها: هذه قصيدتي باسمك كتبتها في تلك الليلة.
ابتسمت لما فهمت من خاطره واحمر وجهها خجلًا.. أرادت الرحيل فجاءها خاطره من جديد: انتظري ولا ترحلي.
جاءه خاطرها يقول له: أسعد باللقاء غدًا إن شئت، فقلبي لا يتحمل الآن تلك العاصفة الآتية من مقلتيك.
قال: انتظري، علها تمطر الكلمات ونضيع معًا في الطرقات.. طالما بحثت عن قربك، والليلة شعرت به، فلا ترحلي.
جاءه خاطرها يقول له: غدًا عند تلك الصخرة البيضاء طالما حلمت بك هناك، أتعلمها؟
قال: نعم، أعلمها. فكم حلمت بك هناك سنوات وسنوات.
وكأن القلبين يتسابقان في اللقاء يصيحان بصوت واحد: عند الغروب موعدنا.
انصرفت وظل ينظر إلى شرفتها. ثم نظر إلى القمر قائلًا: ما أبهَاك يا قمر! وما أجمل هداياك!
وبات يحلم باللقاء عند الصخرة البيضاء، وعند الغروب تلاقيا وانطلقا كطفلين وكأنهما التقيا من بعيد الزمان شاديين.
ما أبهَاك يا عشق وما أحلاك يا حب..
تجمع بين عشاق وتُسعد حالِم القرب..
نجوب الكون أعمارًا فلا شرق ولا غرب..
ويسكن فينا من سكنوا منذ بداية الدرب..
الحب وطن لمن يبحث عن وطن، وبيت لفاقد البيت، وزمان لمن يشعر بالضياع، حديث بلا كلمات، عناق الاشتياق، نار بلا لهب، أمواج هادئة، أحضان تجمعنا على الرغم من المسافات، أوجاع نستشعرها بأحبابنا فتوجعنا.. الحب عادة وعبادة، حياة لمن فقد الحياة.
لااجد كلمات تعبر عن مدى
اعجابى سوى أنك مبدع
صاحب احساس راقى 🌹
اشكرك جدا على هذه الكلمات التي تحمل كثيرا من التشجيع بصفاء وطيبة شخصكم الجميل
رائع صديقي ...
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.