اقترب اليوم من لحظات المنتصف؛ عقارب الساعة تسير ببطء شديد على عكس الأجواء الخارجية. فدرجات الحرارة تعلن تمردها على الارتفاع والرياح تشتدُّ سرعتها وكأنَّ في نيتها اقتلاع كل الأشياء.
إذن الأصوات في الخارج لا تشجِّعك على المضي قُدُمًا نحو الخارج. لكنَّه الوقت المحدد للتَّسوق في هذا المكان الغريب الذي لا يبدأ النهار فيه إلا بعد الحادية عشرة ظهرًا، ولا مفرَّ من مواجهة هذه الأحوال.
أصارع خطواتي لأخطو إلى الأمام خطوة، فتعيدني خطوتين إلى الوراء تلك الرياح الخريفية الشديدة.
بدأت خطواتي تتباطأ. وشيئًا فشيئًا لم أعد أراقب خطواتي بعد أن بدأتُ أتأمل المارَّة وملامحها. الوجوه أصبحت رمادية مجهولة التقاسيم، شاحبة يكسوها الغمُّ والأحزان، والأفواه تتمتم مع لا أحد.
كُلٌّ في عجلة يجرُّ أذيال القهر والبؤس سعيًا وراء أبسط المستلزمات «ربطة خبز، جرَّة غاز، لُقيمات تسد جوع العيال...».
آخر ما أذكره صوت اصطدام سيارة بشيء ما.
ولا أدري من أين جاءت هذه الأضواء الصَّفراء الكثيرة ومجموعة أشخاص يحملقون في وجهي موحِّدين زيَّهم الأخضر مع الأقنعة أيضًا. وأضغاث كلمات متناثرة بالكاد أسمعها.
والعجيب كيف تحوَّل المكان إلى قاعة في محكمة قضائية، وكلُّ من أعرفهم جالس يراقبني وينتظر بدء محاكمتي.
اعتلى القُضاة أماكنهم وأنا ما أزال أراقب باستغراب المكان والناس ووجودي وراء قفص مرتدية ملابس وطرحة بيضاء.
أحملق بالحضور وأتلمس القضبان، طرقات مطرقة القاضي أعلنت بَدء الجلسة.
رجل يرتدي عباءة القاضي لكنَّه ليس القاضي، أتأمَّل وجهه، أعرف ملامحها، أراقب شفتيه تتحركان ولا أسمع صوتًا!
نعم عرفته، إنه أبي، نعم القاضي أبي. لكن كيف؟ ولماذا نحن هنا؟
انتبهت إلى أنه يعيد سؤاله الموجَّه لي، يبدو أنها المرة الثالثة في توجيه السؤال؛ فعلامات الغضب بدأت تغزو ملامح وجهه، وأنا أذكر تلك النظرة العسلية التي تبرق عند انزعاجه.
قال بصوت متألم:
- بلغني حالك وإخوتك؛ والجفاء بينكم. هلَّا أعطيتِني تفسيرًا لذلك؟
تحركت قليلًا آملةً الوصولَ إليه، لكنَّ القفص اللعين حال بيننا؛ فالرؤية من ورائه ضبابية، وللحقيقة يُشعرني بالاختناق.
أبتي، ماذا سأقول؟ هل تسمعني؟ هل تسمع كلماتي؟
كلماتي ليست كباقي الكلمات، كلماتي حكايتي؛ قصة وجع أرويها، حقيقة آلمت قلبي، عشت سنين وأنا في وهم أنَّ سعادتي تكتمل وسعادة من أحبُّ، إلا أنَّ دروس الحياة ليست بالمجان. تلك الدروس التي تكشف لك الحقيقة بلا استئذان، اتَّضح أنَّ سعادتهم تكتمل بآلامي وأحزاني، بجروحي وآهاتي، بكسري وخذلاني.
- قالوا: إنَّ قلبك أصبح حجرًا وابتعدتِ وكأنَّ ليس لك أحد.
أبتي: أنا لست قطعة حجر، بل قلبًا يقطرُ ألمًا، ابتعادي دوائي، أمتلك قلبًا مملوءًا بالحب والحنان، صعبٌ عليه النسيان ويعشق الكتمان، عانى من الأحزان ويطمع في الأمان، وما أزال إنسانًا بهيئة حواء، وحدتي هي وطني وصمتي بئر حكايتي.
- ألم أوصيكم بالمحبة وأن تكونوا عضدًا؟
وصيتك لي كانت أن أمتلك قلبًا طاهرًا نقيًّا.
أبتي، أتعلم أنَّ حبك اليعقوبي جعلني يوسفيَّة التجربة. أسقطوني في جُبِّ الحياة حتى لامست قدميَّ النارُ وأوقدتني. رغم غيابك عن الوجود كنت دائمًا محلِّقًا في سماء روحي؛ تراقب وتشدُّ أزري. فما بالك اليوم تحقِّق معي وكأني المذنبة؟
- أتفقد حال القلب ونقاءه، قالوا إنك تكرهين إخوتك.
أبتي، رغم أنَّ حروفي تتوق لخط كلمات تعبِّر عن نبضات القلب وما فيها من جراح؛ من قسوة تجربة وصعقة صدمة، خجلت من كتابتها لكنَّ دموعي دوَّنتها.
أخبرتهم أن قولوا لأخي: إني كنت أراه رفيق درب وروح حياة، توهَّمت أنه نبع للحب والحنان وأنَّه أبي الثاني.
توهَّمت أنَّه ذاك الجبل الصامد أُسند نفسي عليه عند الشدائد، حتى كانت الحقيقة ومن فرط قسوتها صارت كابوسًا مدى الحياة.
ورغم كل ما كان يؤلمني تعبه ويرهقني حزنه.
جلس أبي، ومدَّ يده داخل ذاته وأخرج ورقة بيضاء، ثم أمسك قلمًا وراح يتمتم...
فوضى تامة أصابت المكان...
طيف جدَّتي ربَّتَ على كتفي، وفَرد ذراعيه، وأخذني في الأحضان.
أغسطس 24, 2023, 8:06 م
ابدعتي ..جميلة جدا
أغسطس 25, 2023, 7:09 ص
شكراً لك بومالة
أسعدك الله دائما وأبدا
أغسطس 24, 2023, 8:51 م
تأثرت بالقصة
أحاسيسها قوية وصادقة
دامت كتاباتك
أغسطس 25, 2023, 7:10 ص
أسعدك الله عايدة أينما كنت وحيث حللت
دمت بإبداع وخير
شكراً لك
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.