من قصص الحرب والأمل...ليلة مرعبة ارتجفت فيها الأرض تحت قصف الصواريخ، وتخلت السماء عن ردائها الأسود مستسلمة أمام تناثر ألوان الرعب المُشع في كل مكان، هرع كل من في المدينة يبحث عن مخبأ يقيه من الخطر الهائج كأخطبوط مد أذرعه لالتقاط فرائسه، لم يعد هناك مكان آمن بعدما طوَّقت الفوضى الشوارع، فكثُر الصراخ والبكاء.
أمسك فادي يد ابنته سارة وتشبثت هي الأخرى بيد شقيقها الأكبر وهرعا باتجاه سلالم العمارة، كانت سارة تحاول أن تسبقهم؛ لأنها تعودت القفز صعودًا ونزولًا حتى صار صوت حذائها مألوفًا لدى سكان العمارة.
قطع فادي الطريق وفي رأسه فكرة واحدة، أن يتجه إلى بيت ذلك العجوز الذي تعرف إليه فقط عبر نافذة شقته.
كان فادي كلما فتح نافذته توقف لبضع دقائق ينظر إلى العجوز وهو يسقي شجيراته ويُطعم حيواناته، كان ذلك المنزل وصاحبه يبدوان مثل نوتة تمردت على إيقاع هذه المدينة الهاربة في غرور نحو السماء.
ذات يوم اكتشف فادي صدفة أن للعجوز مخبأً تحت الأرض، أو هكذا بدا له الأمر، في حين انحنى ليضع الصحون على طاولة الأكل المقابلة للنافذة، شاهد العجوز وهو يحمل صندوقًا خشبيًا صغيرًا، وما إن رفع فادي رأسه حتى اختفى العجوز في ثوانٍ، تيَّقن فادي أن في الحديقة مكانًا تحت الأرض وإلا كيف لعجوز أن يتحرك بهذه السرعة، ولكن أين بالضبط؟ هذا ما لم يعرفه ولم يشأ أن يشغل باله به، فالأمر يتعلق بخصوصية غيره.
لا يعرف فادي كيف نزل تلك السلالم التي بدأت تنهار تحت هيجان القصف، ظل ممسكًا بقوة يد ابنته التي جعلته يقفز هو الآخر، في لحظة بارقة اكتشف كم هي ضعيفة وهشة هذه الطفلة التي لطالما رأى فيها المشاغبة المعاندة، فتحول كل تركيزه نحوها وانتشلها بحركة سريعة مغطيًا رأسها الصغير بيده، ثم واصل النزول خلف ابنه الذي كان يتصرف وكأنه في إحدى لعب الفيديو التي يدمنها.
انتشر الحطام في كل مكان، وأصبح التعرف إلى الاتجاهات صعبًا، ولا يمكن التوقف ولو لثوانٍ لرفع الرأس وتحديد وجهةٍ للهروب، قرر فادي أن يتبع حدسه ليدله على شجرة الصنوبر المنتصبة جانب منزل العجوز كراية نصر ترفرف على سفينة عائدة من بعيد، لم يكن بحاجة لطرق باب جاره العجوز فقد سقط جزء كبير من جدار الحديقة.
تخطى فادي وطفلاه أكوام الردم حتى يلجوا إلى الداخل، وإذ بهم يلتقون وجهًا لوجه مع العجوز، ابتسم العجوز في هدوء وكأنه ينتظر ضيوفًا ليشاركوه فرحًا، فاندهش فادي من رباطة جأشه والسماء تمطر هلعًا وفزعًا.
لم تَطُل اللحظة كثيرًا حتى دوى انفجار مزلزل بالجوار، فجذب العجوزُ فادي ودفع به إلى داخل ممر ضيق تحت الأرض ذي شكل منحدر يؤدي إلى قبو، وما هي إلا ثوانٍ حتى كان الأربعة تحت الأرض في مكان معزول تمامًا عن العالم الخارجي، وكأن الأرض انقلبت على ظهرها.
صور الحرب المفزعة تلك لا تفارق سارة حتى بعد مرور سنين مديدة عن نهايتها، وجذور ذاكرتها تأبى الانفصال عن ذلك القبو ورائحته الممزوجة بالرطوبة، ففيه وُلِد معنى ثانٍ لحياة سارة، ظل يلازمها ملازمة التجاعيد لوجه العجوز والأوردة المنتفخة ليديه الكبيرتين والخشنتين.
بدت سارة شاردة وهي تقف تعرض على الحاضرين نتائج بحثها الأكاديمي الذي تُوِج بجائزة الشرف العلمي. ما كان يظهر على شاشة العرض شيء وما كانت ترويه سارة شيء آخر. نسيت بحثها وراحت تسرد كيف نجت وعائلتُها، والمدة التي قضوها تحت الأرض في ضيافة العجوز كثيرِ الصمت.
لم يحسوا طيلتها بالجوع؛ لأن المخبأ كان في الأصل مطمورةً لبذورٍ وحبوبٍ من أنواع شتى، وخضر وفواكه مجففة وكثير من الصناديق الخشبية الصغيرة، وأدوات فلاحة معلقة بعناية، وحذاء بلاستيكي للحقل.
نسيت سارة وهي داخل القبو القصف وقطتها ريتا التي لم يتسنَّ لها أن تحملها، تبدد خوفها وانشغلت باكتشاف هذا المكان العجيب، خُيِّل إليها أنها مثل (أليس في بلاد العجائب)، وهي من قصصها المفضلة.
لم يحس نزلاء القبو بالعطش، فالمكان رطب وفيه شيء من البرودة التي يمكن تحملها.
دمرت الحرب بلد سارة، فلم تسلم المحاصيل من الحرق، والأرض من التلوث الذي أتى على التربة والمياه والهواء، تحولت المدينة إلى خراب.
توقفت سارة عن تقديم العرض، وتقدمت بضع خطوات نحو الحاضرين وخاطبتهم دون ميكروفون، وقالت: «من يستحق الجائزة هو ذلك العجوز، من علينا أن نخلد اسمه هو ذلك العجوز».
ثم طغت بحة خانقة على صوتها حتى ظن الحاضرون أنها سوف تنهار بالبكاء، لكنها تمالكت نفسها وأضافت: «في الحقيقة البذور التي اشتغلت عليها سنوات، وأعطت هذه النتائج المبهرة التي جعلت بلدنا مكتفيًا، بل مصدرًا للغذاء هي في الأصل مِلكٌ لعجوز لا أعرف اسمه، لكنني أفضل أن أسميه الجندي الذي حارب دون سلاح.
خرج بلدنا من تلك الحرب المشؤومة تائهًا في رمضاء يبحث عَمَّن يسقيه، أنجبت الحرب الجوع والفقر في كل مكان بعدما حرق العدو كل مصادر الغذاء وقصف بنوك البذور والجينات، ولهذا أقول حتى ذلك العجوز المجهول حارب على طريقته».
تذكرت سارة الليالي الثلاث التي قضوها داخل القبو، لا يتكلمون إلا قليلًا خوفًا من أن يكتشفهم العدو المحتل، كان هناك مصباح صغير معلقٌ، بالكاد ينعكس ضوؤه على وجوههم المتعبة حين يجلسون لتقاسم بعض الأكل، أما بقية الوقت فيستلقون حين يُطفئ العجوز المصباح، كانت سارة تسترق النظر إلى وجه العجوز حين يكون منشغلًا.
تحس أن شيئًا ما فيه يجذبها إليه، ويجعلها تحس بالأمان، قررت أن تشكره، وتزوره بعد أن يهدأ جنون القصف أو يأتي من يحرر المدينة من الغزاة.
في الليلة الأخيرة قبل خروجهم من مخبئهم ذلك تكور العجوز فوق كومة من التبن وأطبق ذراعيه على رأسه ونام باكرًا، لم تكن هذه عادته، فبقي المصباح الصغير المعلق في سقف القبو مشتعلًا وحيدًا.
ليلتها كان نوم سارة متقطعًا، بين الفينة والأخرى تفتح عينيها الخضراوين وترسل نظرة عطف نحو هذا العجوز الذي أخفى وجهه في الجهة الأخرى، تزاحمت الأسئلة في رأسها الصغير، هل هو نائم أم يفكر؟ فيم يفكر؟ ما اسمه؟ ربما ذكر اسمه لوالدها في الليالي الماضية حين كانت نائمة؟
وكانت تلك الليلة ليلتهم الأخيرة داخل ذلك القبو.
في صباح اليوم التالي لم يبق من القصف إلا صداه البعيد، فقد عاد شيء من الحركة إلى المدينة، أخرج فادي طفليه بعد أن اطمئن ثم عاد إلى القبو، طال مكوثه، فقلقت سارة ونادته، صعد فادي وضمها إليه وهو يختصر كلماته قائلًا: «لم يحتمل قلبه كل هذا الذي حدث، لقد تعب وآن له أن يرتاح يا بُنيتي»، فهمت سارة أنه لن يستيقظ أبدًا.
حزنت سارة حزنًا عميقًا، ونزلت تلك الكلمات على قلبها نزول قطرات الشمع على يد غافل.
لم يكن ذلك النجاح الذي حققته سارة إلا ردًا لجميل العجوز، فأبت إلا أن تهديه عملها وتكتب بخط مميز:
أغسطس 7, 2023, 5:21 ص
بداية موفقة وجميلة والله من اول مقطع اعرف ان كانت القصة او المقالة حلوة او لا عزيزتي تواصلي معي عبر بريدي الإلكتروني narjisskalaf@gmail.com لآمر اريد اخبارك به من فضلك ولك كل الاحترام ❤️
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.