اسمي عدنان، ولدتُ لأسرة مصرية مسلمة في قرية جنوب البلاد، حيث امتزجت التقاليد العريقة بحكايات الزمن السحيق. وعيتُ على الدنيا وأنا في الثالثة أو الرابعة من عمري، وأول ذكرى مطبوعة في ذهني هي يوم زفاف أخي الأكبر. كنتُ أرتدي ملابس بيضاء زاهية، يزينها الفرح، وألهو في فناء منزلنا الواسع برفقة أخي الذي يكبرني بثلاثة أعوام.
في أقصى الفناء، اجتمع المنشدون الدينيون وأصحاب المعازف، في حين انشغل الحلاقون بتجهيز العريس، لكنهم كانوا هناك أيضًا لغرض آخر—الختان. كان ذلك الطقس يُجرى في مثل هذه المناسبات، وليس في المستشفيات كما هو الحال اليوم.
وبينما كنت ألهو، سمعتُ صوتًا يردد: “الصغير أولًا!” لم أدرِ أنهم يقصدونني حتى وجدتُ نفسي محمولًا نحو الرجل الذي سيُجري العملية. حدث الأمر بسرعة وسط أصوات الأناشيد والمعازف، ولم أشعر بألم، وكأن البركة غلفتني. بعدها، حملوني إلى الطابق الثاني حيث استقبلتني أمي بوجهها الضاحك قائلة: “مبروك، وعقبال زواجك.”
في الحقيقة، لم يتم ختاني وقتها لأنني، كما أفادتني والدتي، وُلدت مختونًا، وكانت تقول إنني ختنتني الملائكة. ولكن عندما أسرح بعقلي وبذاكرتي، أجد أنه في العصر الذي استشفه بعد ذلك، سبق وحدث ختاني هناك، وبطريقة ليست كما حدث مع أخي الذي يكبرني، وكان سيحدث معي مثل ما حدث معه.
تكرر المشهد مع أخي الأكبر، لكنه لم يكن محظوظًا مثلي، إذ أغمي عليه، وساد الفناء هرجٌ ومرجٌ لإنقاذه. ربما كانت هذه اللحظة هي بداية تساؤلاتي الكبرى: من أنا؟
وُلدتُ في أسرة قروية، والدي كان رجلًا قويًّا ووجيهًا، يملك أراضي زراعية يعمل فيها أبناء قريتنا والقُرى المجاورة، كما كان له عمل آخر مع الشرطة. أما والدتي، فكانت ربة منزل ذات تربية دينية عميقة، ابنةً لأحد كبار مشايخ القرية، الذي كان مستشارًا ومعالجًا للناس بالقرآن الكريم. كنا عشرة أبناء، سبعة ذكور وثلاث فتيات، أنا أصغرهم جميعًا.
على الرغم من الحياة الرغيدة التي عشناها، لم أشعر أبدًا أنني أنتمي إلى هذا المكان، لطالما انتابني إحساسٌ غامض بأنني غريب عن محيطي، كأنني جئتُ إليهم بقدرٍ مجهول. كنتُ أرى عائلتي مثالًا للقوة والنُبل، ووالدي رجلًا يحظى باحترام الجميع، ومع ذلك، كان داخلي صراعٌ لا أفهمه.
دائمًا كانت لي آراء يتم الأخذ بها في عائلتي وبين إخوتي، وكنت صاحب الرأي القوي النافذ. وكنت مصارعًا قويًّا بين أقراني، أنصر المظلوم وأكره الظلم وأقاومه، حتى إن وجدته لدى أحد من إخوتي، لدرجة أنهم كانوا يطلقون علي لقب “الشيخ صاحب الكلمة وصاحب الحق.” كنت أعشق الخيل من طفولتي، ولا أحد ينافسني، وكانت الخيول تحبني وأعشقها.
والدتي كانت تحبني حبًّا خاصًّا، تروي لي قصصها وأغانيها، وتثق بي بحديثها. كنتُ الابن الوحيد الذي أصرَّت على إلحاقه بالمدارس الحكومية بدلًا من الأزهرية، حتى إن أخي الأكبر سلك نفس المسار بسببي. وعلى الرغم من هذا الامتياز، ظلَّ الإحساس بالغربة يلازمني، كأنني عشتُ حياة أخرى في زمن آخر، وكأن قصة قديمة لم تفارق ذهني منذ الطفولة.
في أعماقي، كنتُ أؤمن أنني في زمنٍ بعيد كنتُ شخصًا آخر، في مكان آخر، داخل مملكة عظيمة. كانت هناك أراضٍ خضراء ممتدة، أنهار وحدائق وزهور تُزهر طوال العام. كنتُ ابنًا لأسرة ذات شأن، لي والدان جليلان، إخوة فرسان ومحاربون، وخدمٌ وحراسٌ مخلصون. كنتُ أتدرب مع أخي الأكبر، الذي كان يكبرني بثلاث سنوات، على ركوب الخيل وفنون القتال، ونتلقى تعليمًا خاصًّا في قصرنا الفسيح.
لكن ذات يوم، حدثت كارثة. سقطت المملكة في يد الغزاة، وتراجع المدافعون عنها. وخشيةً على حياتنا، قرر والدانا تهريبنا مع أحد الخدم المخلصين، وأتذكر وداعه لنا وكأنه لن يرانا مرة أخرى، وكذلك والدتي. وقال للخادم: “هذان أولادك من الآن. اصعد بهم أعلى التل وراقب الموقف، فإن انتصرنا يتم عودتكم، أما إن لم نفعل، فهم أولادك، ولديك ما يكفي لتربيتهم حتى الشباب.”
انطلق بنا الخادم على الرغم من اعتراضنا، وكان القرار الذي لا رجعة فيه. أخذنا الخادم الطيب أنا وأخي بعيدًا إلى أعلى التل على ظهور الخيل. كنا ثلاثة: أنا، وأخي، والخادم. وقد زُوِّدنا بما يكفي من المال والمؤن لنظل مختبئين حتى ينجلي الخطر.
ولكن حدث ما حدث وصدقت وجهة نظر والدنا.
انطلق بنا الخادم الأمين ولا نعلم إلى أين وجهتنا، ولكن أتذكر وادي العقول وما به من زواحف وعقارب سامة، وأتذكر الكهف المهجور أعلى قمة أحد الجبال ولجوءنا إليه للمبيت، ولكي لا نكون في طريق يرانا به أحد فيتم رصدنا لأعدائنا.
وعند ذهابنا لدخول الكهف، دخل الخادم أولًا لاستطلاع الكهف والاطمئنان على خلوه من المخاطر. وبمجرد الدخول، تفاجأ الخادم بهيكل عظمي بشري ليس بعيدًا عن مدخل الكهف.
أشعلنا كومة من أغصان الأشجار الجافة لنرى أحد السحالي الضخمة التي سارعت بقذف لسانها، ليبادر أخي بقطعه بسيفه وقتلها. وبعد الاطمئنان، وجدنا عنكبوتًا ضخمًا يحاول أن ينسج خيوطه على دابة الخادم التي تحمل المؤن.
ولكونه في سقف الكهف وكان من الصعوبة الوصول إليه، نمت للخادم فكرة إشعال فرع شجرة ومن ثم حرقه. تم لنا بعدها المبيت، وقبل طلوع الشمس رحلنا من الكهف إلى الوادي والأشجار والزهور وينابيع الماء لنغتسل وتشرب الدواب، وسلكنا إلى الوجهة التي كان الخادم ينوي المسير بها.
طوال الرحلة، عبرنا جبالًا وعبرنا أنهارًا وسرنا في غاباتٍ ساحرة. لكن المصير لم يكن رحيمًا. تعرضنا لهجوم من قطاع طرق، خطف أحدهم أخي وفرَّ به بعيدًا، في حين خاض الخادم معركة شرسة ضد البقية، لكنه سقط مضرجًا بدمائه بعد أن قتل مهاجمينا.
تركني وحيدًا مع حصاني ودابته التي تحمل المؤن. لم أكن أدري إلى أين أذهب. ظللتُ أسير في الطرق الوعرة، على أمل أن أجد أخي أو أنقذ نفسي من هذا المصير المجهول. عندما حلَّ الليل، لجأتُ إلى شجرة ضخمة ذات أزهار جميلة، وتركتُ نفسي تغفو من شدة التعب.
فجأة، أيقظني صهيل حصاني وصوتٌ يقول: “هذا هو المطلوب!” فتحتُ عيني لأرى وجهين مألوفين… وجهين يشبهان والديَّ الحاليين! لم أرَ شيئًا بعد ذلك… سوى أنني استيقظتُ في منزلي الجديد، بين أهلي الجدد.
هل هو تناسخ الأرواح؟ هل هو حلمٌ عالق في الذاكرة منذ الطفولة؟ أم أن سرًّا أعمق لا أستطيع إدراكه؟ لا أعلم… لكنني حتى اليوم، أشعر أنني لم أنتمِ يومًا لهذا العالم.
👍👍
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.