بعد أن وصلت أمل إلى منزلها أكمل محمود الطريق في صمت يغلب عليه حزن شديد حتى وصل إلى منزل أخيه، فخرج سعيد من السيارة.
سعيد: أسمعت آخر نكتة؟
محمود: أنت في عالم آخر!
سعيد: حبيبي محمود، أردت أن أخرجك بسماجتي من حزنك.
فابتسم محمود ابتسامة خفيفة وقال: سماجتك؟
«نعم نعم ههه» واستكمل سعيد الحديث فقال: أرى أنك في منحة من الله وعليك أن تقبل هداياه، فحتى الابتلاء هدية ومنحة يا محمود.
قال محمود: نعم يا سعيد أحتاج إلى مزيد، أكمل كلامك حتى لو كنت أعرفه.
فقال سعيد: تعالَ حتى نشرب شايًا دون سكر ودون شاي ونتكلم.
فضحك محمود وقال: لن أستطيع، سامحني، تكلم معي هنا في السيارة، نعم أنت أخي الأصغر لكني أرتاح إلى كلامك «رغم سماجتك هههههه!».
دخل سعيد السيارة وقبَّل رأس أخيه وقال: ألم تُصلِّ بخشوع وتُحسن الوضوء ولقاء الله؟ ألم ترحم الضعيف؟ ألم يرزقك الله جبر الخواطر؟ ألم تتصدق إيمانًا ويقينًا وثقة بالله أن مالك يزيد لن ينقص بالصدقة؟
قال محمود: نعم يا سعيد، كل هذه النعم رزق من الله.
سعيد: قل لي يا محمود، ألم يستحق الحق أن نصبر على ابتلاء لا يعد شيئًا في مقابل كل هذه النعم؟ لا أقول لك نعمة المال والعيال والصحة والبصر والسير على الأقدام، فكل هذه يُرزق بها المؤمن والكافر، ولكن لأنك أخي وأعرف مقدار حبك لله أرى رزق الله لك في طاعتك لله، ألم يستحق الله منك صبرًا «جميلًا»؟
أخي، أعِن قلبك وعقلك على جلب نعمة الحمد في المحن وفي النقم وعند الابتلاء، بذكر الله فذكر الله دواء، وأثنِ عليه جميل الثناء، فهو شافي كل داء، فيصفى القلب داعيًا برجاء.. فقل له «حبيبي، أعنِّي على حمدك حمدًا لا تسبقه شكوى، تفتت قلبي حين حنَّ لنجوى». تأكد أخي أن بنجواه ترقى، فترقى النفس ومن الأحزان تنجو.
وأكمل سعيد: نعم أخي، هكذا يكون ضبط النفس عند المحن، أتحب أن تكون من الذين يؤمنون بالله على حرف، إذا رزقوا نعيمًا حمدوا وإذا انتقص منه شيء يظهر جحودهم على ما أنعم عليهم من نعم؟ وما أدارك أن الابتلاء نقمة؟ هو نقمة لمن لم يُعن النفس والقلب والجوارح كلها على استقبال القدر برضى، يكتشف الناس بعد سنوات تعقب كثيرًا من الابتلاءات أنه لولا هذا القدر ما نالوا النعيم الذي نالوه بعد مدة كبيرة، أو أن هذا الابتلاء لو لم يأتِ لكانت حياتهم ستتبدل سوءًا. هذا ما يخص الدنيا.
أما في الآخرة أي ابتلاء بصبر لك فيه أجر. ونحن نعلم كل هذا لكن ليس علينا أن نفسر أسباب الابتلاء، ومن رحمة ربي أن بعض الابتلاءات تُفسر نفسها حتى يصبر الآخرون عند المرور بها. ألم تكن هذه رحمة من الله؟ أنت في محنة، وإذا صبرت تحولت إلى منحة.
محمود: لكن أتألم.. أتألم. ألم تعلم أن حنان حبيبة العمر؟ كنا صغارًا منذ طفولتنا وكبرنا وكبر الحب بيننا، وأشعر أشعر لا لا لا...
سعيد: إذا لم تُفضِ لي فلمن؟
قال محمود: يا ليتني كنت أنا! لماذا هي؟ لماذا هي؟
سعيد: أخي ابكِ! اصرخ! ولكن كن واثقًا أن ما أنت فيه أفضل مما كنت تتمنى. كنت تتمنى الصحة والتوفيق للجميع؟ وما أدارك أن الصحة والتوفيق نعمتان؟ أحيانًا يا محمود تكون النعمة نقمة. قل لي، إذا كانت الحياة رغد والحصول على كل ما تحب، هل كنت ستدعو الله؟ هل ستزداد تقربًا منه؟ قل لي كيف ستجمع درجات صبر ورضى؟ فالرضى بالنعم وشكرها طبيعي، أما الشكر والرضى عندما ينتقص منك شيء فهذا هو الدليل الحقيقي على حبك لله. اعلم أن إيمانك قوي، فلا تدع النفس تهلكك ولا تدع الشيطان يحزنك بيأس.
محمود: لقد ارتحت الآن أخي، أشكرك! دائمًا أشعر بأني الأصغر وكأنك أبي في محنتي.
سعيد: أصغر؟!
فابتسم الاثنان لأنهما دائمًا يتشاكسان وحتى الآن!
كانت سعاد قلقة على والدها فاتصلت بعمها، فقال العم: والدك بخير ولكن أردت أن أخرج طاقة الحزن التي تنتابه فتكلمنا نصف ساعة، وهو الآن بخير وفي الطريق.
وصل الأب وطرق الباب، ففتح الابن الأكبر الباب وسأل والده: هل الجرس معطل؟
قال الأب: حتى لا تفيق والدتك. دعنى أنام.
فنام بملابسه كاملة من شدة الألم في حجرة مستقلة، وعندما حل الصباح نادى سعاد وقال: عندي سر خاص بي وبوالدتك، خاص بحالتها، أخفيته خوفًا من أن أسقط من نظرك، لكن لم أعد أحتمل إخفاءه -وبكى في حضن سعاد-. ثم قال: عديني بعد سماع سري أن تُقدري موقفي، ما حدث ليس لي ذنب فيه، بل هو قدري.
سعاد: أبي، أقلقتني! أبي أنت فوق رأسي دائمًا، أرجوك لا تقل لسعاد طفلتك أنك يومًا ستسقط من نظرها أبدًا! كنت بشرًا تصيب وتخطئ وأنا سرك وأمانك.
فقال: لا يا سعاد، كلكم سوف تعرفون تدريجيًّا.
سعاد: تفضل أبي...
وإلى هنا انتهت الحلقة.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.