7:00 صباحًا
تجلس جميلة ذات الـ 32 عامًا، في شرفة منزلها الذي تعيش فيه بعدما تزوجت منذ ثلاثة أعوام، صباح هادئ تحاول أن تصنع فيه بعض التفاصيل اللطيفة لنفسها، منذ كانت في بيت أبيها وهي تُحب أوقاتها الخاصة وتُقدسها، تلك الأوقات التي تتخلى فيها عن أي مسؤولية وتقضي الوقت في أي شيء ممتع يجعل مزاجها في حال أفضل، تتأمل التحول الكبير الذي طرأ على حياتها بعد الزواج>
حتى ملامحها بدأت في التغيير، هناك بضع سنوات تشعر وكأن أحدهم سرقها منها، تذكر جيدًا أنها كانت تنعم بحياة هادئة بقليل من المسؤوليات، وكثير من الأحلام والأصدقاء، شغف مُتقِد نحو الحياة، صحيح أن المجهول غالبًا يُخيفنا ولكنه يجعلنا على قدر كافٍ من الفضول والترقب واليقظة، لا نُحب أن تفوتنا الأشياء، نُفرِط في الأحلام بأمل كبير في تحقيقها، والمشكلة ليست في أن هذه الأحلام قد لا تتحقق، لكن الأزمة كلها تكمن في تلاشي الأمل، فقدان القدرة على الحلم تدريجيًا، عدم الرغبة في المواصلة، وفهم الأمور بشيء من الواقعية، ذلك الفهم الذي يُطفئ وهج الحياة في أعيننا.
«الواقعية» تُزعجها تلك الكلمة جدًا، تُذكرها بشخصيتها الحالمة التي لم تستطع الاحتفاظ بها طويلًا، بعدما استحالت شخصيتها لأخرى أكثر عملية وصرامة تُناسب شكل حياتها الجديد، في أواخر العشرينات ربما نكف عن الأحلام أو تتحول إلى شيء يشبه الكؤوس الزجاجية الموضوعة في «النيش»، لا نستخدمها ولا يمكن أن نفرط فيها، وكذلك الأحلام لا نسعى إليها لكن نجد فكرة العيش بدونها سخيفة وتصبح أحلامنا شبيهة بأحلام الصِغار بأن يتحدثوا مع الطيور مثلاً، وهكذا نُبقيها دواخلنا، ونعيش الواقع كما هو.
تنظر إلى بطنها المُتكور بابتسامة يملؤها الحنان، أحلام جميلة الآن متعلقة بطفلها القادم، تضع يدها على بطنها وكأنها تُداعبه، تُحدثه بأن يأتي سريعًا، لأنها تشتاقه حتى قبل أن تراه، تعرف أن حياتها ستتغيّر بالكامل بعد تلك اللحظة، تخاف من المسؤولية التي تنتظرها، لكنها على يقين أنها رغم صعوبتها لها حلاوة ما لا تُضاهي حلاوة تحقيق أي حلم من أحلامها الضائعة، قطعة من قلبها ستخرج للعالم وتعيش معها خلال وقت قصير، على قدر خوفها مُتحمسة.
مئات الأفكار المتناقضة في عقلها، الحماس، الخوف، الرغبة في المواصلة، والرغبة في الهروب أيضًا، الحب، الحزن، الحلم، الخوف بصورة أخرى أكثر اتساعًا داخل قلبها، الدهشة، تسأل نفسها متى وكيف مرت الأيام؟
الصورة لديها مشوشة، بيت الأب، اللعب مع أبناء الجيران، دميتها المُحببة إليها منذ الصغر، الدمية الجديدة التي اشترتها لطفلتها، رائحة عطر والدها تختلط برائحة المخبوزات التي كان يحضرها وهو عائد إلى المنزل، رائحة عطر زوجها التي تعودت عليها.
نصائح سيدة عجوز لها في سن العشرينيات، تحديدًا «أنه لا أحد يحصل على كل شيء، وأن عليها أن تعي جيدًا لاختياراتها حتى لا تندم، وقبل فوات الأوان»، شخصيتها الحالمة، والأخرى الواقعية التي أصبحت عليها، صوت فيروز؛ «فيه ماضي منيح بس مضى»، مزيج غريب، يتخلله رائحة الشاي باللبن الذي تتناوله مع إفطار خفيف، شعور بالندم لرغبتها في أن تنعم بوقت قصير لها وحدها، هذا ما فعله بها عقلها وقلبها معًا عندما خلت بنفسها معهم، لم تكن مُدركة ماذا سيفعل بها شعور الحنين الذي تهرب منه منذ فترة بجعل نفسها مشغولة دائمًا، وكأنها كانت تهرب من نفسها ومن أفكارها، وهذه معاناة الأشخاص دائمة الحنين إلى الماضي والذكريات.
صوت فيروز مرة أخرى؛ الأغنية التالية سهم أصاب قلبها مباشرة، تتمايل برأسها مع بدء الموسيقى، تُدندن وعيونها تلمع بالدموع «طيري يا طيارة طيري يا ورق وخيطان، بدي ارجع بنت صغيرة على سطح الجيران... وينساني الزمان على سطح الجيران».
هذه هي الكلمات التي تصف شعورها بدقة الآن، شعور لن تستطيع أن تتخلص منه أبدًا، وهي تعرف ذلك جيدًا، تتأمل السنوات التي مرت سريعًا، ومزيج المشاعر الغريب الذي يتكون داخلها بمرور الوقت، تتذكر كلمات السيدة العجوز، «لا أحد يحصل على كل شيء أبدًا، عليكِ أن تعي اختياراتك جيدًا»، تسأل نفسها؛ هل الحياة التي اخترتها تناسبني؟
تتذكر هواجسها في عمر العشرين، تبتسم في استسلام محاولة طرد أفكارها، عليها الاستعداد ليوم طويل من المفترض أن تنهي فيه بعض المهام، هذا هو يوم الإجازة الذي أرادت أن تحصل عليه لتأخذ قسطًا من الراحة، تنوي في قرارة نفسها ألا تفعل ذلك مرة أخرى وهي تضحك على بداية يومها وتلك الأفكار التي زاحمتها منذ الصباح، تعرف الآن جيدًا أن الحياة لن تسمح بقدر كبير من الحنين وأن عليها الاحتفاظ بتلك المشاعر داخلها فقط، وأنها على الرغم من اعتقادها باستحالة شخصيتها الحالمة إلى شخصية واقعية، لا تزال نفس الفتاة الحالمة التي تهرب داخل نفسها في عالم وحدها تعرف كل تفاصيله، تحِن إلى الماضي رغمًا عنها، تتحرر من أي قيود ولو للحظات تتصالح فيها مع نفسها، وتعود إلى الواقع لتستمتع بتفاصيل أخرى تنتظرها لتعيشها.
كلام جميل فى غاية الجمال
Nice
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.