كانت تسير وصدىٰ طرقات حذائها الأبيض على الأرض تسمع..
كفها يحاوط عضد والدها الوقور وهو مساير لخطواتها وشبح بسمة لأجلها منه تحبها أعينها، وعلى مدار سنين عمرها منذ يومها الأول لم يتغير دفؤها..
خطواتهما تتقدم بهدوء للأمام، وخلفها آخر صديقة عزباء لها، تحمل قليلًا من قماش ثوبها الطويل، وخطوة أخيرة وقفت عندها الخطى وفتحت الأبواب..
ومن خلفها ظهر جمع طال انتظارهم لقدوم صغيرة أبيها وامرأة أحدهم..
وقف جميع حاضري القاعة ملقين بجل انتباههم لصاحبة الطلة البهية..
بفستانها الأبيض قرب والدها، ونبض من وقف مشدوهًا بعروسه في الجهة المقابلة ..
لولا علو التمتمات من حوله لكان سيطغى بقوته وسرعة دقاته..
ولا عجب في عرامة تلك الرغبة التي لاحت وأراد فيها الصراخ بجل سعادته بلفظة "وأخيرًا"..
لكنه تماسك ممتنعًا عنها، واتساع بسمته دون تحكمه كان كافيًا لشرحها..
أما عروسه الخجول فما إن امتثلت أمامه حتى استقرت أعينها على زر سترته الأوسط..
فليس بهين عليها أن تتصادم مع جرميه دون التهاوي، بل كبير..
تسمع حديثه مع والدها وكم كان صوته مدغدغًا لحاسة سمعها..
قبلة لكفها من قِبل والدها بدفء هي عنه غير غريبة وبسمة بادلتها له..
قبل أن تقع يدها بيد من أصبح وبكل ما تحمله جمالية الكلمة زوجها، الذي لا تزال تهرب من عينيه ولخجلها البين لعينيه هو مبتسم..
لكن مبتغاه رؤياها ولأجل أن يرى أعين عروسه المعرضة عن لقيا العيون، ثنى قدميه قليلًا وهو يقف أمامها حتى أصبح بطول أقل منها قليلًا..
وبفعلته زاد توردها وعلت صوت الضحكات حولهم..
وأصدقاؤه صفيرهم ملأ المكان مع هتافاتهم العالية..
وهنا نال هو مبتغاه بلقيا عينيها المعاتبة المليئة بخجلها من أفعال من هم له صحبة..
فما كان منه سوى الهمس بدون صوت لعينيها التي ارتكز ثباتها على شفتيه..
"أحبك"..
فجعلتها همسته تهرب من جديد بمقلتيها نحو صديقتها المبتسمة..
تشكو لها بتعابير وجهها التي تصرخ بفرط خجلها من موقفها الحالي، كأنها تسألها..
"ماذا أفعل؟"..
وما فعلت صديقتها سوى الغمز لها والإشارة بأن تعيد نظرها نحو من اعتدل بوقفته..
ونظرته بهيام لعروسه ورقة أفعالها على قلبه جلية وكم محب هو لخجلها..
بفعلة صديقتها شعرت وكأنهم تخلوا عنها مع خجلها للرجل أمامها..
فحتى أبوها أسلمها إليه، لذا استجمعت الهواء من حولها وغلغلته لدواخلها..
مريحة جفنيها بلقاء ما تعدى الثانيتين بل أقل، وعادت تنظر إليه..
فهذا الفعل هو ما كانت تريد، كانت تريد أن تبصره بعينيها وكم أمِنَت لدفء نظرته المُحِبة..
وكانت قبلة الجبين التي أهداها مرجفة لبنانها..
ودون وعي شدت على يديه ما أن اقترب منها أكثر، ولم تلبث إلا وأعادت الاختباء بأعينها منه..
ولكن فيه كان اختباؤها مع عودة صياح الجميع وذاك الصفير من جديد..
وزادتها أفعالهم فوق إحراجها إحراجًا، ويا لجمالها بجانبه، هو رجلها وهي سيدة قلبه..
هذا ما نعرفه عن الزواج، حياة في الفردوس موجودة في الدنيا، ونعيم فيها لا يفنى..
نهاية الأحزان والمآسي، عالم خالٍ من الكوابيس والوحدة وتلك الدموع التي أرقت فيها أعيننا وطالت معها ليالينا..
دون حضن دافئ أو يد حانية تمسح دموعنا وتربت بمواساة لم نلقها من الدنيا الآن سنجدها، وسيتحقق كل ما حلمنا به يومًا وسنجد المثالية في شخص واحد..
فبأعيننا الجميع أوغاد، خائنون، حاقدون، ثعابين، أشرار لم يعرفونا سوى لمصلحتهم وبعد أن أدركوها من قربنا، تركونا ونسوا كل الأيام واللحظات الجميلة التي كانت بيننا..
وها نحن الآن نكافأ بشخص سيعوضنا عن الجميع، وسنجد فيه الأب والأم والأخ والأخت والصداقة والحب والعائلة والناس أجمعين..
هل ما ذكرته الآن غير ما هو –فعليًا- مترسخ في الجميع على أنه الغرض الوردي الجميل والرائع الذي سنجده في الزواج فقط؟ أو في الارتباط عمومًا..
دعوني أقل إن ما هذا إلا خزعبلات أنشأتها أنفسنا المحتاجة لمثل كل هذه العاطفة، دون الإدراك أن ما نريده هذا أحد معاني إثقال النفس بأشياء لا قدرة لها على استيعابها لأنه فوق طاقتها..
أليس هذا عبئًا من الأساس لنحمله لشخص واحد، بل ونؤمن بأنه يجب أن يكون شريكنا فيه، كل الأشياء والصفات الجميلة التي لم نجدها فيمن هم غيره..
هذا صعب إذا لم يكن مستحيلًا، فعلى ما يبدو أننا ننسى ما تقتضيه الحياة الزوجية من واجبات قبل حقوق، بل إننا لن نجد أحلامنًا اجمع في الطرف الآخر..
لأننا في النهاية إلى قول واحد وإن اختلفت مفرداته، سنقول إن الطرف الآخر، رجلًا كان أو امرأة، إما تغير، أو كان يخدعنا منذ البداية، أو كان أحد الأشخاص الذين عرفونا لأجل مصلحتهم فقط..
قبل كل شيء دعوني أقل إننا لسنا ملائكة، وشريكنا ليس مثاليًا، بنا جميعًا عيوب قد لا تطاق إن تعاملنا نحن معها..
الحياة ليست وردية، وليست مثالية، وليست خالية من المآسي والألم، الحياة بها اتزان..
فبقدر الحزن الذي نراه يتملك كل صغيرة وكبيرة حولنا، يوجد ذاك الجانب المضيء، جانب يمكننا الارتكان إليه دومًا..
وليس الأشخاص من سيجدون الحلول الفذة لما نعانيه، الزواج سكن وسكينة لأرواحنا، يمكننا خلق فيه روح السلام والمحبة واللجوء لأمانة دون إفراط، ودون تفريط..
علينا التعقل، لأن بناء بيت وتكوين عائلة لا يحتاج لأصحاب عقول حالمة، ومعرفتهم عن الزواج لا تتعدى حدود التغنج والمغازلة..
في الفرح تشارك وفي الحزن تشارك أيضًا، إحدى أحب المقولات التي قرأتها عن ما يربط الرجل بالمرأة وجمال تلك الرابطة..
كما آدم من تراب وحواء من ضلعه، فأنت من تراب وهي منك..
فأجل للرجل قوامة، ولست أعني بذلك أن يكون متجبرًا وقاسيًا في حقها مستغلًا لقوامته، بل عليه أن يعرف كيف يحتوي من خلقت منه وكيف يضمها إليه ويشعرها أنها الوحيدة التي تحتله بأكمله، فنعم النساء تحب ذلك..
وعلى المرأة أن تفهم أن في تلك القوامة ليس إنقاصًا لشأنها، بل للعناية بها، وليس تقليلًا من شأنها، فكما كان والدها سندًا لها منذ الصغر، أبدلها الله بسند لها وهي خاصته فقط..
لا تجعلوا أسقف آمالكم عالية فتهدم فوق رؤوسكم، ولا تنسوا واجباتكم فتصبحوا أولئك الذين قست قلوبهم يطمعون في الأخذ فقط، ولا ترضوا بأقل مما تستحقون فتكونوا ظالمين لأنفسكم..
لا تهدموا ريعان شبابكم وجمال روحكم بأيديكم، النقاء يخلق مع البشر يوم مولدهم فلا تغيروا الآن..
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.