منذ أن كان صغيرًا وهو يتردد على ساحات الصيد ليجمع ما تطاير من ريش النعام، الذي قضت عليه يد الصياد، فقد كان يستهويه الريش ونعومته ناهيك عن ألوانه المختلفة، أما الآن فنراه يافعًا وقد ازداد شغفه وأصبح النعام هو ضالَّته بعد أن كانت هوايته جمع ريشه.
أجل، صديقنا اليوم هو هاوٍ للصيد، ولطالما رافق والده وأصدقائه إلى البراري من أجل ممارسة هوايته المفضلة، التي هي أيضًا مصدرًا للرزق.
لكن ولأن سُنَّة الحياة تقتضي التغيير والتطور، فإن صديقنا نراه وقد خرج عن المجموعة التي كان ينتمي لها، وقد رافق مجموعة أخرى من الصيادين، الذين لا يهمهم لا شرف الصيد ولا أخلاقياته، فطريقة الصيد قد اختلفت، وقد بدأ يسودها مَكْرُ يَضُرُ بالحيوان نفسه، فيكفي أن صديقنا اليوم أضحى رمزًا للجشع والأنانية، والمرء الذي يعتدي على حق الحيوان في التزاوج والتكاثر، فإننا ننتظر منه فعل أي شيء من أجل مصلحته النفعية، على الرغم من أنه تربى في وسط تسوده مهنة نبيلة وشريفة.
لنراه اليوم وقد أصبح عقله في حالة نشاط دائمٍ حتى حين يأتي إلى فراشه فهو مجرد جسد، لشدة انشغاله بحيل جديدة يعتمدها من أجل إثراء نشاطه الصيدي، والذي بالمقابل سيدر عليه أموالًا طائلة؛ لما يمتاز به النعام من فوائد سواء أكان لحمه أم بيضه أم حتى زهمه الذي يتميز بخصائص علاجية جَمَّةٌ.
وبقدر ما كان الصيد بالنسبة لصديقنا مصدر رزق، بقدر ما كان يخلو من الأخلاقيات، فأمسى رزقه موبوء وتحوم حوله العديد من علامات الاستفهام، طبعًا أقصد فترة التزاوج التي أضحت في خبر كان، وهذا ما جعل الظَليمٌ والربدا بالكاد يلتقيان، وبطبيعة الحال فإن نوعهما يكاد يختفي.
لقد جلس يومًا يستذكر طفولته وكيف كان يخرج إلى البراري رفقة والده، هذا الأخير كان يعتمد المناورة في صيده فيُمسي وفي جعبته الكثير، أما هو فكان يجمع الريش الذي كان يتطاير من شدة ركض النعام، فنرى ذاك الغبار الذي يحجب عنه الرؤية، فيتوه أحيانًا عن المجموعة، ويبدأ بالصراخ ليعود والده أدراجه فيجده وقد تَسَمَّرَ في مكانه من شدة الهلع، فركلة النعام لا يُعْلَى عليها وهي مميتة في أغلب الأحيان، وقد حذَّره والده مرارًا من الاقتراب منها.
لكن اليوم هو خبير بالنعام وطرق صيده، ولشدة حماسه ونهمه نراه وقد قفزت فكرة إلى رأسه تدعوه لأن يُغير من أسلوبه، فراح يراهن مع صديقه بأنه سوف يقترب أكثر من النعامة، حتى إنه سيقف أمامها ودون أن تتحرك ساكنة، فسخر منه صديقه وراح ينعته بالمجنون.
وجاء اليوم الذي خرج وصديقه باكرًا ليلتحقا بالبرية، وقد حمل معه كيسًا كبيرًا ليسأله صديقه عن محتواه، فيبتسم ويقول له ستعرف بعد قليل، وعند توقفهما أخرج صديقنا ما بالكيس، وإذا بها جلد نعامة وقد خيطت عليها مجموعة معتبرة من الريش، فهمَّ بارتدائه وتلبَّس به، وبالكاد تعرَّف عليه صديقه.
نظر صديقنا لمرافقه وهو يخاطبه:
- "ألم أقل لك أنني سأقترب من النعامة وأقف أمامها وأنظر في عينيها ولن تشعر بأنني مختلف عنها، وسأبتسم لها ثم أرديها قتيلة وأحضرها لك مُجَرْجَرة؟"
بعد هذا الخُيَلاءُ ها هو نراه وقد اعتمد وسيلة الصيد عن قرب؛ ليختفي عن الأنظار، وبدأ يقترب من القطيع لدرجة أنه أضحى لا يُرى من شدة اندماجه معهم، أما صديقه فنراه وهو يتفقد زناد وزر أمان بندقية صيده، وفجأة يسمع صخبًا، ويرى قطيعًا من النعام وهي تركض على غير هدى من شدة فزعها، حينها سمع طلقات بارود آتية من الناحية الأخرى للبرية، فيحمل بندقيته على عجل ويمتطي فرسه ويتجه إلى مكان الصوت، وهو يقترب يرى مجموعة من الصيادين وهي تحمل غنائم صيدها وتهب بمغادرة المكان.
حينها التفت يمينًا وشمالًا باحثًا عن صديقه ليخبره بأن اليوم لا يصلح للصيد، فقد أفسدت عليه تلك المجموعة الأمر وعليهما العودة مرة أخرى، لكنه لم يلمحه ولم يعثر على أثره، فربط فرسه برسن فرس صديقه، وهو يحدِّث نفسه:
- "لن أعود إلا بعد أن أعثر عليه".
وبينما هو كذلك، فإذا به يلمح نعامة ساقطة أرضًا وقد نسيتها تلك المجموعة، فيعدها عشاؤه الليلة، فذلك أفضل من أن يعود خالي الوفاض، وبمجرد أن انحنى لحملها فإذا بها جثة صديقنا الذي أخذه الحماس إلى المَمَات.
أجل لقد أُردي من قبل أحد الصيادين، ضانًا منه أنها نعامة، فالرجل كاد أن يصبح نعامة من شدة تقمصه لها، أما الثمن فهو حياته التي دفعها نظير تهوره وعناده وغروره لذلك.
إن قصتنا اليوم هي عبرة لكل من يتغاضى عن بعض الإشارات الحمراء التي تصادفه، لكن وبالرغم من ذلك فإنه يسد أذنيه وعينيه والأهم من ذلك يتجاهل بصيرته ويُلقي بنفسه إلى التهلكة ضانًا منه أنها عين الصواب.
في الواقع الصيد يعلمك الرضا بما كتب اللَّه لك، فليست كل رحلة صيد تكلَّل بالنجاح، بل لكل رحلة نصيبها من الغنائم، فهو يرفع الهمة والحماسة والتأهب الدائم لاقتناص الفريسة، ويعلمك مواصلة التركيز لأوقات طويلة والمثابرة وتكرار المحاولة مرة بعد مرة حتى تتمكن من الوصول لغايتك.
كذلك هي حياة المرء، فهي رحلة صيد وتنافس، الغاية منها هي التقرب إلى اللَّه وملكوته، فنتعلم مهارات النجاة في الظروف الصعبة حين نحيد عن المسارات أحيانًا، والتي تُخْتَبَرُ فيها شجاعتنا ومدى تمسكنا بعروة خالقنا، التي سرعانما تُرينا وميض النور الذي يَتَرَاءى لنا من بعيد، فنقترب منه وقد غمرنا بالكامل.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.