في المطار، انتهى الإحساس بالألم.
ظلَّ موظف الخطوط الجويَّة القطريَّة جامدًا رغم توسّلاتنا العديدة. كان يردِّد علينا بصوته الرَّتيب وانجليزيَّته المطبوعة بلكنة آسيويَّة: "متأسِّف! لم يعد بإمكانكما التسجيل. يجب عليكما اقتناء تذكرتين جديدتين."
نظرنا إلى مواعيد الطائرات المتَّجهة من كوالا لمبور إلى الدَّوحة. لا مفرَّ من قضاء كامل الليلة في هذا المطار الشاسع والمليء بالغرباء. ولا أمل كذلك في الالتحاق بالطّائرة التي كان من المفترض أن تأخذنا من الدوحة إلى تونس.
أصبحت فجأة كلّ الوجوه من حولي مخيفة.
وسط باحة المطار الصاخبة، رأيت كرسيًّا شاغرًا فاندفعت نحوه مسرعًا ثم التفت إلى زوجتي مبتسمًا لكنها أجابتني بنظرة ازدراء وغرزت عينيها في شاشة الهاتف.
وقف رجل أشقر أمام موظف الخطوط الجوية القطرية بينما ظلَّت زوجته وابنتاهما الصغيرتان وثلاثتهنّ شقراوات في انتظاره على مسافة مترين أو أقل.
بدا على ذلك الرجل شيء من الانفعال.. لعلَّه تأخَّر عن موعد الطائرة مثلنا.
لم يطل الأشقر النّقاش مع الموظف بل عاد مباشرة إلى عائلته يبثّها الخبر السيئ نيّئا.
كنتُ أراقب الحوار من مكاني وكانت زوجتي أيضًا قد توقفت عن العبث بهاتفها ووقفت تتابع باهتمام شديد ما يدور بين أفراد تلك العائلة (الإنجليزيّة على الأرجح).
بكت الصّغيرتان لمّا علمتا أنّ الطّائرة قد أقلعت. فضمّتهما أمّهما إليها وازداد ارتباك الأب لرؤية الخوف في عيني ابنتيه.
رشقتني عندها زوجتي بنظرة أشدّ ازدراء من الأولى وعادت إلى موظف الخطوط الجوية القطرية تحاول أن تستأنف معه المفاوضات.
عاودني حينئذ الألم اللعين. ألم الاحتراق الذي أصابني منذ ليلة الأمس جرّاء استلقائي تحت أشعة الشمس على حافة حوض السباحة لساعات طويلة بعد أن رفضت استعمال المراهم بدعوى أني متعوّد بشمس تونس وأشعَّتها شديدة الالتهاب.
في الحقيقة، كنتُ حريصًا على العودة إلى الأهل محترق الجلد حتى أوهمهم بأن شهر العسل قد مرّ على ما يرام وكأنّي بذلك أواري ما قد يبدو عليّ من خيبة الأمل بعد بضع أيام من الزواج.
تصبَّب منّي العرق وسالت القطرات على ظهري وعلى صدري فتحوَّل الألم إلى دغدغة شديدة ورغبة في الجري وسط المطار. تملَّكت نفسي بصعوبة وأخذت أتلهَّى بالبحث عن العائلة الانجليزية التي انسحبت بهدوء بعد اقتناء تذاكرها الجديدة.
فشلت زوجتي مجدّدًا في مساعيها فابتعدت عنّي ما استطاعت
وتكوَّرت على كرسيّ وقد بدا عليها الإحباط والاعياء. نظرت إليها طويلا لكنها تجاهلتني. ناديتها فأبت أن تتكرَّم بالالتفات.
مرَّت ساعات ونحن على تلك الحال وأخذ عدد المسافرين يتناقص إلى أن أصبح المطار مقفرًا.
لمَّا انتصف الليل، ذهبت إلى زوجتي متثاقلاً.. فكّرت: "الآن وقد استراحت يمكننا أن نفكِّر بهدوء فيما سنفعله لنعود إلى تونس".
كانت قد انتهت بعد من ترتيب الأمور. لقد اتّصلت بأبيها وبكته حالها وسوء حظِّها فاشترى لها تذكرة لتسافر فجرًا.
"اشتريت تذكرة واحدة، لم يعد يهمُّني أمرك، تصرَّف." قالت بهدوء دون أن تنظر في اتجاهي.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.