كشاب متخرج حديثًا عن كلية الهندسة وككثير منا لم أجد وظيفة، وبدلاً من الجلوس على المقهى بالساعات أبحث في الصحف عن عمل..
ذهبت للعمل بمصنع للمفروشات، وبعد فترة تعلمت طريقة التعامل مع المكواة بنفسي، فطلبت من المشرف أن أعمل على المكواة، كي يزداد أجري، فأخبرني أنه لا توجد مكواة شاغرة للعمل عليها، وأنه على أحدٍ ما أن يترك العمل أو ما شابه ذلك حتى يمكن تنفيذ طلبي، لكن بعد فترة وجدت مكواة شاغرة في صالة صغيرة لا يكاد يدخلها أي أحد عداي، طلبت العمل عليها، في البداية تحجج بأنها لا تعمل و..و... إلخ، لكن مع إصراري، تم تنفيذ ما طلبته.
مع مرور الأيام، فكرت لماذا يترك تلك المكواة هكذا؟ ولماذا يتهرب مني عند سؤاله؟ لكني اكتشفت الجواب بعد مدة، حيث أصبح المكان لسبب ما أكثر وحشة وغير مريح، وأُصاب بضيق في الصدر، كأن صخرة ضخمة تجثم عليه، ثم أصبحت أرى أشياء غير موجودة، كأن شخصًا ما يقف على بعد بضعة أمتار يراقبني، وكلما نظرت لذلك المكان يختفي، أصبحت أكثر قلقًا وريبة مما يحدث، حاولت تجاهل هذا الأمر لكنه تكرر معي لمدة طويلة حتى نفد صبري... وإذ فجأةً أراه أمامي، يرمقني بنظرة فاحصة، أول ما فكرت هو الهرب، لكني أصبت بالشلل، ماذا أفعل؟
كأن يتمم بكلمات، حتى ظننت أنه يحاول التواصل معي أو إخباري بشيء ما، بعدما رأى عدم جدوى ما يفعل... اختفى هكذا بدون سابق إنذار.
أخذت إجازة لبقية اليوم، وذهبت لشيخ لأرى ما أستطيع فعله، أخبرني بتلاوة آيات من الذكر الحكيم في هذا المكان، نفع هذا لفترة لكنه عاود الظهور بل وبدا مغاضبًا بشدة، ظهوره يبعث بالرعب حتى النخاع، قرَّرتُ أن أجد أي تعويذة أو ما شابه ذلك، رغم خجلي من ذلك فأنا شاب متعلم، والآن أؤمن بتلك (الخزعبلات)، لكن كما توقعت لم تجدي نفعًا.. ففي النهاية هي خزعبلات، قررتُ الاستقالة عن العمل، بعد ما طلبت النقل من مكان عملي لأي صالة أخرى للعمل بأي شيء، لكن ظل يظهر حتى في منزلي، فقد أصبح يطاردني في كل مكان أذهب إليه.
قرَّرتُ التحلي بالشجاعة والتحدث معه ولماذا يفعل هذا، وذهبت للصالة حيث ظهر أول مرة، حاولت التواصل معه، وفجأةً أصبح حديثه مفهومًا.
سألته عن سبب ظهوره، فهمت من حديثه أنه يظهر لأي شخص يعمل في تلك الصالة تحديدًا.
_" لكن لماذا تفعل ذلك؟ ما هدفك؟"
_" في الواقع أريد أن أحل ما هو عالق بداخلي."
_" وما هو ذلك الشيء؟"
_" لا أذكر.." _ " ماذا؟
_" كما سمعت لا أعلم ما هو عالق معي كي أحله."
تنهدت وفكرت: إذاً يجب أن أساعده ليحل عقدةً عالقةً معه هو حتى لا يتذكرها... ذهبت لأحد دجالي المنطقة فهو ربما يدلني على شيء ما، أخبرني أنه لا مفر من معرفة حياته والحديث عنها، أغلب الظن أن الأشياء التي تورقه، ستحدث لديه عاطفة شديدة ثم يتذكر.
وبالفعل بدأت الحديث معه، في المنزل وفي المصنع، وكنتُ أرتدي سماعات الرأس حتى لا يظن من يراني أني أُصبت بمس من الجنون، ومع الوقت عرفت عنه بعض الأشياء من حياته قبل موته، حتى ذكر نقطة قال فيها: "هذه الصالة تشهد على لقاءات غرامية محرمة بين اثنين من الشباب، وجريمة قتل"..
خطر في ذهني أنه هذا العاشق وقد تسبب بمقتله، بسبب اكتشاف عائلة الفتاة وهذا ما يؤرقه، أخبرته بذلك فأجابني بأن نصف الإجابة صحيح، فسألته: "بمعنى؟" أجاب أنه رآهما من قبل يتواعدان، فقد كان الفتى ابن صاحب المصنع، لذلك: "وعدتهما بعدم إفشاء السر، لكن قمت بتهديدهما حتى لا يقوما ذلك ثانيةً، أنه سأخبر صاحب المصنع." وأما سبب القتل فقد كأن لسبب ما لا يتذكره.
وفي اليوم التالي من استكمال الاستجواب، تذكر سبب الموت، فهو بالتأكيد قُتل على يد صاحب المصنع، "ماذا؟" أجبت مندهشًا، فاسترسل في الحديث: "علم صاحب المصنع بما يحدث بين ابنه والعاملة، حاول أن يحل هذا الأمر بأن يجعلها تنقلع من المصنع بهدوء وبدون بلبلة، لكن الفتاة أخبرته أنها حامل ولن تتخلى عما في بطنها من أجل النقود، فأثارت حفيظة الرجل فهاجمها، رافضًا أن يكون حفيده من عاهرة وضيعة، وأثناء ضربها ماتت في يده، وكان وسط رجال أمنه، وقد أخفوا الأمر وتخلصوا منها لكني رأيت ما حدث، وبالتالي يمكنك تخمين ما حدث.."
قالها ثم فكر أين صاحب المصنع الآن، أخبرته أنه في السجن بسبب معاملاته غير القانونية مستغليًا غطاء المصنع، ولم يُذكر قط أمر كونه قاتلاً، فطلب مني الشبح زيارته في السجن، لأنه يريد إعطائه هدية من نوع خاص.
وقد كان، قم بزيارته في السجن، قابلني بتململ مستفسرًا عما أريد، فجأة تلبسني الشبح، ونظر له نظرةً توحي بمضمونها، لم أعرف ماذا حدث بعد ذلك، لكن ما وضح أمامي هو كون الرجل فزع لشكل كبير حتى أنه كان يصرخ ويردد أنه لا يريد الموت بهذا الشكل وأخذ يعتذر وإنه لن يقوم بتكرارها، أصبحنا محط أنظار الزوار، فأسرع الحراس وأخذوه للزنزانة وأنهوا الزيارة، ويبدو وكأن الشبح أخذ بثأره منه بهذه الطريقة، فقد ظل يضحك في محادثاتنا كلما ذُكر الأمر، لكن لسبب ما تذكر زوجته وطفلتيه، فشرد قليلاً وبدا مهمومًا، فبدأ بالسؤال عنهم وكيف أحوالهم بدون معرفتهم بعائلة أبيهم..
وهنا ذكر أمر مشكلته مع زوجته وعدم رؤية ابنتيه، فرجاني أن أذهب لزوجته لتسامحه على ما اقترف، ويرجو منها الذهاب بالطفلتين لجدتهم فهي تشتاق لهم بالتأكيد، وأخبرني أن أعطيها رسالة بها مكامن مشاعره الصادقة.
ذهبت للعنوان الذي تعيش به زوجته، أعطيتها الرسالة وأخبرتها بمشاعره، كنت تدّعي اللامبالاة لكن بعد قراءتها لرسالته بكت بحرقة، فأخبرتها أنه بالتأكيد سعيد لأنها مسامحة له: "أنا أسامحه على كل شيء". هكذا أجابت للتأكيد عليّ، ثم اعتذرت على الإزعاج وانصرفتُ، كان يقف بجانبي يرى كل هذا، أظن أنه كان متأثرًا بشدة، لو كنت أعرف الوصف لقمت بوصف المشهد، لكن ما يُقال هو محادثة بين اثنين بكلمات لا تصل إلا عبر وسيط يرى شبحًا ولو أخبر أحدًا لاتهم بالجنون ريما حتى من الزوجة نفسها، كل ما أستطيع قوله: هما بالتأكيد كانا وما زالا عاشقين، لكن ما هي تلك المشاكل التي تفعل هذا بالعشّاق؟!
وأثناء رحيلي، وقف الشبح أمامي، ابتسم ابتسامةً هادئة: "لا أعرف ما أقول.."
_"شكرًا تكفى."
_"شكرًا... يا خالد." وهنا مد يده لمصافحتي، مددت يدي لكن لم أستطع لمسه ليس لأنه شبح بل لأنه بدأ يختفي، بهدوء كحبات الرمال في مهب الريح... وكلمة شكرًا جزيلاً تتردد في أنحاء المكان.
بعد عدة أيام، ذهبت الأم لزيارة عائلة المتوفى بالطفلتين، قابلوا جميع أفراد العائلة لكن للأسف الجدة كانت قد توفيت منذ زمن قبل رؤيتها لأحفادها من ابنها الميت، لكنه كان أكثر من كافٍ حتى تعود المياه لمجاريها... ويتحقق حلم شبح ميت..
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.