بدقاتها التي ملأت المكان معلنة تمام الثامنة خطوت أولى خطواتي نحو المستقبل، إنه يومي الأول بالجامعة ما زلت غريبة عن المكان لا أعرف أحدًا.
اصطحبني والدي كعادته دائماً أن يرافقني في أول أيام الدراسة، كان أبي سعيداً لنجاحي في الثانوية العامة، كيف لا وأنا المتعثرة في الدراسة طيلة حياتي.
لم أكن كإخوتي، كنتُ أحتاج دوماً لمن يساعدني، فقد كنتُ أعاني منذ صغري من صعوبة القراءة، ولكن أبي كان دائماً بجواري يخفف عني ويشرح للمعلمين حالتي.
كنتُ عنيدة ولا أحب المذاكرة ليل نهار، دائماً ما كنت أحب الرسم، وكل ما يتعلق به، كنتُ أجد في الرسم مستراحًا لنفسي، كانت والدتي دائمًا ما تسخر من درجاتي مقارنة بإخوتي وزميلاتي غير أن والدي كان على النقيض تمامًا.
كان يحثني ألا أستسلم وأواصل الطريق ولا أفقد الشغف، بعد المرحلة الإعدادية أشارت والدتي على أبي أن يلحقني بتعليم متوسط وألا يكلف نفسه عناء إدخالي الثانوية؛ لأن ذلك كما زعمت ولديها الحق إضاعة للمال الذي يحتاجه إخوتي أكثر مني، غير أن أبي أصر أن ألتحق بالثانوي وأدخل الجامعة.
وها أنا ذا أقف بجوار والدي وأحقق حلمه، مسك يدي بقوة وأخذ يكتب مواعيد المحاضرات، بدا
مهتمًّا أكثر مني بالأمر، أودُّ أن أتخرج ليكون سعيدًا، ولأثبت لأمي أنني قادرة على النجاح وتحقيق ذاتي مثل إخوتي.
طبعًا تختلف دراسة الآداب عن الطب في المستقبل، ولكن كفاني أني سأكون خريجة جامعية لها مستقبل، ربما يكون باهرًا بقليل من الصبر والاجتهاد.
مرت الأيام الأولى ثقيلة فأنا وحدي لم أتعرف بأحد، أحتضن كتبي ودفتر محاضراتي وأنظر للجميع وقد تناغموا وانسجموا في مجموعات مختلفة، وكأن كل فصيل قد جذب أتباعهK فهناك تقف ليلى ذات الضحكات الرنانة مع صديقاتها محبات الموضة ومساحيق التجميل.
على الجانب الآخر بجوار مصلى الكلية، تقف ساجدة وأخواتها يتناقشن في قيام الليل والأوراد اليومية وحكم الدين في إظهار خصلات الشعر من الحجاب منددين بالتبرج والتزيُّن والاختلاط.
لم أجد نفسي في كلا الفريقين كما أني لستُ من النوع الذي يهوى مصادقة الفتيان أحسبها نقيصة لا تضيف لي؛ كما أني لا أحترم هذا الذي يقف وسط مجموعة من الفتيات يتحدث عن بطولاته الزائفة ويحجز لهن المقاعد في المدرج.
بينما كنتُ أنتظر في الرواق على مضض منتظرة محاضرة ما، وجدتُ هذا الإعلان عن تكوين جماعة المسرح في الكلية، لكم وددتُ الانضمام فأنا أحب رسم الديكورات لتلك الأعمال ويستهويني تجارب الأداء وخاصة تلك المسرحيات العالمية كهاملت، وأحب ذلك الاندماج الذي يجعلك تتصور أن المؤدي قد اتحد بالشخصية.
كم تمنيت أن أمثل دور سندريلا فهي تتشابه معي في بعض الصفات؛ فالسندريلا تكرهها زوجة أبيها، وأنا تبغضني أمي؛ لأنني لست ذكية كما أنني لست على قدر كبير من الجمال، أكاد أكون مقبولة الشكل، ليس لدي ذلك الجمال الساحر الأخاذ.
أعلن أحد الطلبة اعتذار الأستاذ عن المحاضرة، فتهللت أساريري؛ فلقد ضقت ذرعًا بالكلام النظري الركيك الذي يزيد نفسي بؤسًا ويجعلني ناقمة على تلك العلوم النظرية التي لا طائل من وجودها في نظري؛ إنما كتبت تلك المواد لتزيد نفوس الشباب شقاء وعناء فمن ذا سيحفل بنظريات عقيمة قد كتبت في قديم الزمان وتناقلتها الأجيال كمسلمات تضيف للحياة الحديثة ثقافة وتقدم.
ما دام أمامي متسع من الوقت، لِمَ لا أستجمع قواي وأذهب لمسرح الجامعة علّني أحظى بفرصة لأقف ذات يوم خلف كواليس أحد الحفلات أو أشارك بأحد الأدوار.
تقدمت ببطء وكأن خطواتي ترجع للخلف، ولكن روحي الحالمة تسحبها لتجبرها على التقدم بعزيمة وإصرار.
وجدتُ الباب مفتوحًا فدخلت ووجدت شابًا يبدو أكبر بقليل مني، فلم أره أبدًا في المرج الخاص بالفرقة الأولى.
كان يمسك بورقة قد أعدها لتدوين الأسماء حثتني ابتسامته على التقدم، وأخبرني أن بعد غد هو موعد تجارب الأداء، أردت أن أخبره أنني قدمت فقط للعمل في الديكور غير أنه طمأنني ألا أقلق، فالكل كان يعاني نفس القلق والتردد في بداية الأمر.
أعطاني القلم وأخبرني أن أستعد بمشهد أقدمه ونصحني أن أختار شيئًا حزينًا، أردت أن أتراجع ولكنه أخبرني أن المسرحية سيعقبها العديد من البروفات فلا داعي للقلق، كما أنه يوجد مخرج سيأتي ليشرف على المسرحية، ولربما إذا نجحت سيتم تقديمها بالمسرح القومي.
يتبع..
دُمتم بكل ود وحب.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.