بدأ يومي كالمعتاد بالاستيقاظ فجرًا للذّهاب إلى صلاة الفجر، وأثناء خروجي من الباب الرّئيسي للمنزل الذي أقطن فيه وجدت الشّارع مزدحمًا على غير عادته في هذا التّوقيت، حيث مجموعاتٍ كثيرة من النّاس متّجهة في نفس الطّريق المؤدّي إلى المسجد.
أكملت طريقي في اتّجاه المسجد ودخلت بابه الرّئيسي لأتفاجأ بأعدادٍ كبيرة من النّاس تغطي كامل أرجاء المسجد بين ساجد وراكع مؤديين صلاة السنة وما بين قارئ للقرآن وجميعهم في انتظار إقامة صلاة الفجر.
أدّيت صلاة السنة بعد معاناةٍ شديدة في إيجاد مكانٍ للصلاة وما أن انتهيت من صلاة السنة حتَّى أذّن المؤذّن للصلاة، وأثناء أدائي الصّلاة لاحظت في السجود تتعالى أصوات المصليين بين باكيًا وراجيًا الله بالمغفرة والعفو.
وما أن انتهت الصّلاة حتَّى هممت لأداء صلاة الشكر كعادتي وبعدها توجّهت للخروج من المسجد في صعوبة شديدة لأجد ممرًا للخروج.. وسألت نفسي ما الأمر أنا لم أرَ مثل هذه الأعداد للمصليين في السابق.
توجهت وتنتابني الحيرة، حيث ذهبت إلى مخزنٍٍ قريبٍ من بيتي استأجره شهريًا لأضع فيه دراجتي المتواضعة فهي وسيلة مواصلاتي الوحيدة إلى عملي، وصلت إلى مقرّ عملي وهو عبارة عن مجمع لتوزيع الصحف الذي أعمل فيه كموزع لتوزيع الصحف والمجلات على بعض الأحياء المتفرّقة في المدينة.
فعندما وصلت دخلت كالمعتاد لاستلام الأعداد المقرّر لي توزيعها فوجدت عمّ رضوان وهو المسؤول عن اعطائي الكميّة المحدّدة من هذه الصّحف، يقول لي هل عرفت ما الذي سيحدث في العالم بعد يومٍ تقريبًا؟
قلت له، أنت تعلم جيدًا أني لا أملك رفاهية اقتناء الجوالات الذكيّة، وفي الحقيقة لا أريد وليس عندي في المنزل سوى راديو قديم يحتاج إلى عملية إنعاش قلب كي يعمل من جديد، ووسيلة إخباري هي الجرائد الَّتي أقوم بتوزيعها على العملاء.. وكتبي الَّتي أقتنيها منذ سنين والَّتي أعتبرها هي مصدر أخبار.
ولكن عن الماضي وليس الحاضر.. ليفاجئني عمّ رضوان قائلًا، بأنه لم يتبقَ على نهاية العالم سوى يوم واحد، حيث أكد العلماء أنه سيضرب الأرض كويكب كبير وسينهي الحياة تمامًا عليها، وأن فرص وجود حياة بعد هذا الاصطدام الكبير معدومة وأنه وأنه وأنه...
في الحقيقة وأثناء كلام عمّ رضوان أني لم أتفاجأ من هذا الخبر فقد كنت أتوقعه في أي يوم لعلّه الكوكب أو النّجم الثاقب ذو الذنب الَّذي أخبرنا به كتابنا الكريم، ولا شكّ أيضًا أني قرأت قصّة النّجم ذو الذنب في الكتب التي تتحدّث عن أحداث آخر الزّمان إلا أنه انتابني شيء من الخوف أعتبره منطقيًا وطبيعيًا، وسرعان ما تماسكت لأعود وانتبه لكلام العمّ رضوان من جديد.
وبعدها أخذت كمية الجرائد المحدّدة لي، وخرجت ووضعتها على دراجتي وانطلقت في طريقي المعتاد لتوزيعها، رأيت الشّوارع شبه خالية، وكلّما أصل لتسليم جريدة أرى أصحاب المنزل ينتظرونني بالخارج متلهفين لالتقاط الجريدة مني، حيث عرفت منهم أن شبكة الإنترنت العالميّة قد توقفت منذ ساعات ومحطات البترول خالية من المحروقات، والعمال ولا سبيل لهم لمعرفة أخبار العالم إلا من خلال هذه الصحف نظرًا لتوقف محطات البثّ الإذاعي والتلفاز منذ منتصف اللّيل الماضي، وأن المحلات والمطاعم قد أقفلت أبوابها ولهذا عرفت سبب وجود الشوارع خاوية أثناء توجهي للعمل.
لم يمرّ أكثر من ثلاث ساعات فقط حتَّى وزعت كل كمية الجرائد التي بحوزتي، وذلك بسبب خلوّ الشوارع من النّاس، وفي كل مرّة أصل فيها لأصحاب هذه الجرائد أجدهم في انتظاري متلهفين لالتقاط نسختهم من الجريدة اليوميّة التي أعلنت في صدر صفحاتها ما نشيت العدد الأخير، نهاية العالم غدًا وفي طريق عودتي لمقرّ عملي أتاني اتصال أثناء قيادتي لدراجتي فوقفت جانبًا وأخرجت الجوال من جيبي لأجد اتصالًا من عماد أخي، والَّذي لم يهاتفني منذ عدّة أشهر، وكان دائم التهرّب من اتصالاتي له وعدم الردّ عليها رغم ظلمه لي.
فأجبت اتصاله لأجده في حالة بكاء وانهيار يطلب مني السّماح عمّا بدر منه في حقي، وأنه على استعدادٍ تامّ لإعادة ميراثي الَّذي أخذه مني منذ عدّة سنوات ونصيبي في أموال أبي التي أنكر وجودها معه عند وفاة أبينا، وطلب مني لقائي على وجه السرعة، فقد هدأته وقلت له اطمئن فلنتقابل في المساء وهدأت من روعه..
ما أن استكملت طريقي إلى مقرّ عملي لأجد مديري في العمل ينتظرني في طرقة مكتبه، وكان رجلًا متجهّم الوجه ودائم الغضب، لكني رأيته هذا اليوم وهو في حالة توتر شديد يطلب مني أن أسامحه عن ظلمه لي وكثرة خصوماته واستقطاعاته من راتبي بدون وجه حقّ. وجدته يحمل مظروفًا كبيرًا، وقال لي هذا المظروف به كل مستحقاتك التي خصمت منك بسببي وبدون وجه حقّ وهذه من أموالي الخاصّة لأنه لا يوجد وقت كي تسترد لك عن طريق العمل فلما يتبقى سوى ساعات قليلة على نهاية العالم.
لاحظت تغيّرًا جذريًا في سلوك من حولي في العمل من قول وفعل، فقد تحوّل المجمع إلى أقرب ما يكون بمسجدٍ كبير لأداء صلاة الظهر. حتَّى في طريق عودتي لبيتي وجدت الشوارع شبه خالية وأثناء دخولي الحيّ الَّذي أسكن فيه تتعالى أصوات الأدعية في المساجد حتَّى أقاربي. أقاربي الَّذين هجروا السؤال عنّي منذ سنين والَّذين كانوا يتهربون حتَّى من اتصالاتي للاطمئنان عليهم وجدت العشرات منهم يهاتفونني للسلام والاطمئنان على أحوالي وطلب الصفح والمسامحة مني لتجاهلهم اتصالاتي..
أما أنا فقد كنتُ لا أبالي.. بما سيحدث لأنه بإرادة الخالق.. أكتب قصّتي هذه قبيل انقضاء الـ 24 ساعة بحوالي ساعتين، وسأخلد للنوم بعدها ولا أدري في العمر بقيّة أم أنّها النّهاية.
رأيت النّاس في هذا اليوم أشبه بالملائكة، رأيت ردّ الحقوق المغتصبة لأصحابها منذ سنين في لحظات.
رأيت التسامح والتواضع في معاملات النّاس.
رأيت الخشوع والتضرّع للخالق سبحانه وتعالى في الحقيقة اختلط عليّ الأمر، إن كان هذا اليوم هو آخر يوم في الدّنيا أم أنه أول يومٍ في الجنّة.
لكن رغم رهبة قُرب النّهاية لا أبالغ إن قلت، إن هذا اليوم كان أفضل أيام حياتي التي لم يفصلها عن الموت المحتوم إلا سويعات قليلة، شيء ما دار في ذهني انتظرته أن يؤكد وجودي في الجنّة ويحدث هذه اللّيلة قبل أن أخلد إلى النوم، نعم انتظرتها تتصل بي كغيرها من النّاس لكن لم يحدث إنها "ليلي" خطيبتي السّابقة التي لم تتحمل الصبر معي بعد أخذ "عماد" أخي ميراثي وأموال أبي ولم تتحمل أيضًا وضعي في وظروفي المادية الصّعبة، التي جعلتني أعمل في وظيفتي المتواضعة وأسكن بمنزلٍ بالإيجار.
ها الآن بجانبي أموال وأوراق وتنازلات لأملاك أصر أخي على إعطائها لي منذ عدّة ساعات حتَّى أني لم أفكر أن أعرف تفاصيلها.
أترك قلمي بجانبي وأسلم أمري إلى الله خالقي وأطلب منه سبحانه الرحمة والعفو... في طريقي إلى النوم ونغمات نادرة لجوالي أسمعها من على بعد، نعم إنها هي النغمة التي كانت مخصّصة لهذا الرقم منذ عدّة سنوات لكن تختلط بهذه النغمات نغمات أخرى أقوى، وهي أصوات الرّعد في السماء وأصوات النّاس المعتكفين في المساجد والداعين في المنازل المجاورة... تُرى اقتربت النّهاية أم أنّها البداية؟
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.