في مدرج الكلية رمقها للمرة الأولى، أعجب بانضباطها وشخصيتها الوقورة، كان يراقبها، تحضر دومًا باكرًا بمعية صديقتها، تجلسان في الصف الأول، تتابعان محاضرة الأستاذ بانتباه، وتسجلان ما يستحق التوثيق في مذكرتيهما، أما هو فحضوره للكلية لا يكون إلا لمامًا.
بحكم أنه مساعد في مكتب المحاماة، عمل مؤقت اضطر لممارسته كي يساعد به أباه "الطاهر" في الخمسينيات من عمره، عامل يتقاضى أجره يوميًّا، يعيل أسرته المكونة من سبعة أفراد، ويكتري بيتًا مهترئًا بالمدينة العتيقة.
ذات يوم، سعى للتقرب منها من أجل التعارف:
- آنسة، يشرفني أن أعرفك بنفسي، أنا اسمي هشام، طالب جديد أدرس معكم في شعبة القانون العام.
- مرحبًا، وأنا اسمي فدوى.
- سعيد بلقائك آنستي، هل تسمحين لي بإعارة مذكرتك؛ لأنقل منها محاضرة الأمس.
- لا مانع، تفضل خذ.
- شكرًا جزيلًا...
هكذا بدأت علاقتهما البريئة، استمرت تعيره مذكرتها لاستدراك ما فاته من محاضرات، متفهمة ظروفه القاهرة، ومقدرة استماتته واجتهاده لمواصلة الدراسة، ما جعله يكبر في عينيها، شاب مكافح يسعى لتحقيق ذاته مهنيًا ودراسيًا بأنفة وعزة نفس.
ومع مرور الأيام توثقت صداقتهما، وامتد حبل المودة بينهما شيئًا فشيئًا، إلى أن صارحها بحبه ذات صباح، في أثناء جلسة جمعتهما في رحاب نادي الكلية، ارتبكت متفاجئة، واحمرت وجنتاها خجلًا، راح يمطرها بوابل من الأسباب التي دفعته للتعلق بها، والصفات التي اجتذبته نحوها هي بالذات دون غيرها، أطرقت صامتة، ثم نهضت تودعه باسمة دون أن تنبس ببنت شفة.
بسمتها الأخيرة تركت لديه أملًا، وأنعشت في نفسه إحساسًا باستمرار العلاقة في الأقل، فكر بصوت مسموع قائلًا: "لعلها تحتاج إلى وقت للتفكير، لا بأس، سأمهلها وقتًا لتستشير قلبها...". في اليوم التالي قابلها صدفة رفقة صديقتها في الممر المؤدي لساحة الكلية، ألقت عليه التحية، وبادلها بأفضل منها،
جرهما الحديث عن موعد الاختبارات النهائية، بدت مهتمة بشؤون الدراسة، في حين هو يسرح به خياله مترقبًا رد فعلها بخصوص ما عبر عنه بالأمس، من مكنون مشاعره تجاهها.
حانت لحظات مشحونة من حياتهما، إنها مدة الاستعداد للامتحانات، انهمك كل منهما في المراجعة، لم يعودا يلتقيان مثل السابق، في هذه الأوقات أحيانًا يخالجه شعور بازدياد مسافة البعد بينهما، فتركبه الهواجس، ويشرد به الذهن، وتنهكه صبابة العشق، وقسوة الشوق، وسرعان ما يستجمع قواه، متسلحًا بالتفاؤل، ملتمسًا لها العذر، يمني النفس باللقاء من جديد، بعد انتهاء الاختبارات.
إجراءات آخر السنة الدراسية ممتلئة بالالتزامات: الامتحانات الكتابية والشفهية، وأخيرًا تمكنت فدوى بجدارة واستحقاق من ربح رهانهما، في حين هو أحيل على الدورة الاستدراكية، فانغمس في الإعداد الجيد للاختبارات مرة أخرى بعزيمة أكبر، إلى أن نجح ملتحقًا بركبها.
عدّت أسرته ذلك تحديًا وانتصارًا؛ لأنه يجمع بين تعب الدراسة ومشاق العمل، لكن الفوز الحقيقي له كان هو اللحاق بها، والظفر بقلبها، انتصار في مضمار الحب لم يذق طعمه بعد، ما دام الجواب معلقًا، رهينًا بموافقتها المؤجلة.
اختتم الموسم الدراسي، لزمت فدوى البيت مثل عادتها، فانقطعت قنوات التواصل بينهما، لكونها تنتمي إلى أسرة محافظة، أبوها متشدد لا يسمح بخروجها إلا للدراسة أو الاستجمام في رحلة أسرية إلى البادية، ضاق صدر هشام، وتورمت شرايين قلبه خفقانًا من فرط حبه لها، لم يطق صبرًا على بعدها، ففاتح أمه في الموضوع، أشفقت على حاله، حدثت أباه، فوجئ "الطاهر" بقرار ابنه البكر القاضي برغبته الجامحة في الزواج بزميلته في الكلية.
وأمام إلحاحه، مضى يناقش الأمر مع أبيها "إبراهيم"، رحب بالفكرة بعد أن استفتى رأيها، وسأل عن سيرة الشاب ونسبه، بشرط أن يتمما دراستهما، ومن حسن حظهما، أن والديهما اتفقا على دعمهما وتشجيعهما على الإحصان والعفاف؛ لتترسخ بينهما المودة والسكينة والرحمة، ما داما متشبثان ببعضهما، ينشدان الحلال في سن مبكرة رغم أنهما في طور التكوين.
تزوجا رسميًا دون سقف، طارا من الفرحة، تعانقت روحهما، علاقتهما غدت شرعية، شمخا بأنفهما زوجين يتيهان فخرًا ببعضهما، شرعا يتنقلان بين الفينة والأخرى، بين منزل أسرته، وبيت أنسبائه، يكدحان ويحلمان معًا من أجل أن يحققا أمنيتهما في توفير كنف بيت يضمهما، يترعرع فيه حبهما، في بساط من الطهر والعواطف الجياشة، آملين أن يثمر ميثاق حبهما، ويزهر ناضرًا متلألئًا.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.