قبل أن تخلد إلى نوم، قبَّلت ميرال والدها وطلبت منه أن يحضر لها تلك الدمية ذات الضفائر الذهبية، ابتسم لها وأخبرها أنه سيصطحبها بنفسه عقب عودته من العمل حتى لا يختار واحدة بفستان لا يعجبها فيضطر طيلة أربعة أسابيع كاملة أن يشاركها في صنع أزياء جديدة لتلك الدمية.
حثَّها على الخلود للنوم، فلقد تأخرت عن موعدها المعتاد، كانت ترفض وتصر أن تجلس معه وتتظاهر بانشغالها بالتلوين متعللة بأن مديرها في العمل طلب إليها أن تنجز هذه المهام.
يضحك الأب فميرال تقلِّده في طريقة حديثه عن العمل، تحملها الأم إلى فراشها الوردي الصغير وتكمل لها باقي قصة الأمس عن العنزات الثلاث.
ترجو ميرال الأم أن تتريث قليلاً فهي لا ترغب في النوم هذه الليلة وتريد أن تبقى معها هي وأبيها إلا أن الأم تخبرها أن النوم يساعدها على النمو ويحافظ على صحتها.
لم تجد الصغيرة بُدًا من الامتثال لرغبة الأم، فلقد نفدت كل الحجج من طلب الطعام والماء، تردد مع الأم أذكار النوم وتبتسم وتحتضن والدتها وتخبرها أنها تحبها كثيرًا هي ووالدها وأخيها أكثر من حبها لكل الدمى الحديثة والقديمة وعدد كل المياه في البحار.
تضحك الأم وتطبع قبلة على جبينها وتغادر الغرفة، لا يطرق النوم جفونها؛ إذ يوجد أمر غامض يقلقها ويشعرها بعدم الارتياح، غير أن عقلها الصغير لا يقدر على ترجمة عدم شعورها بالراحة إلى كلمات.
عادت ميرال مرة أخرى حيث يجلس الأب، وطلبت إليه أن يذهبوا لزيارة الجدة في بيتها الآن، تعجب الأب فالوقت قد تأخر وأخبرها أنه في طريقهما لشراء الدمية سيصطحبها لإلقاء التحية على الجدة.
تصر على الذهاب وتخبرهم أن يحققوا أمنيتها في أن يشاركوا الجدة تلك الليلة في بيتها، تخبرها الأم أن الجدة لن تفتح الباب فلقد خلدت للنوم منذ وقت طويل وإذا ذهبوا سيقضون الليلة واقفين على الباب منتظرين أن تستيقظ الجدة في الصباح.
بعد محاولات عدّة لإثنائها عن رأيها قبلت ميرال على مضض وتوجهت لغرفتها وأغمضت في قلق جفونها، وما هي إلا ساعات قليلة حتى استيقظت لتجد جراحًا في يدها وقدمها وتلك السن التي كانت تضايقها وعلى وشك أن تسقط قد سقطت من تلقاء نفسها وعلى رأسها الكثير من التراب، صرخت فزعة مستنجدة بآلام ولكن لا مجيب كان الظلام حالك ولا يتنامى لأذنها سوى صوت القذائف والطائرات.
أحست ميرال بالخوف وأخذت تستنجد بأبيها ولكن دون جدوى، حاولت أن ترفع عن فراشها هذا اللوح الخشبي الذي اعترض طريقها، وعندما عجزت وضعت يديها على أذنها حتى لا تسمع صوت الغارات.
تحسين فإذا السن بجوارها وفمها يقطر دمًا، طلبت من والدها أن يخلعه لها لكونه طبيب أسنان إلا أنه أخبرها أن من الأفضل أن تتركه ليسقط بمفرده أو على الأقل إلى أن يوشك على السقوط وقتها سيخلعه لها.
أخبرها أبيها أنها مثل الأبطال وأنها يجب ألا تستسلم لأي خوف أو قلق، ولكنها الآن تريد حضن أبيها وأمها حتى تشعر بالأمان ولا تخاف.
بعد ساعة من الرعب والخوف والفزع، سمعت أصواتًا كثيرة في المكان، وهناك من كان يرفع الأنقاض والكثير من رجال الشرطة والكثير من سيارات الإسعاف.
لم تفهم ما الأمر، ولما انهدم المنزل، وأين أبوها ووالدتها وشقيقها الأكبر، وأين دُماها لم تعُد موجودة، فلقد ضاعت تحت الأنقاض.
حملها رجال الإسعاف نحو السيارة لتحصل على العناية الطبية وهي في طريقها للمشفى، غير أنها كانت تسأل كل دقيقة عن والدها، وكيف تركها وحدها، ولماذا لم يسمع صوتها وهي تستنجد به وأين والدتها لماذا لم تحتضنها وتهدئ من روعها كالمعتاد وتخبرها أنها غارات من قبل أناس يتصفون بعدم الإنسانية.
كانت الأم تخبرها أنهم لصوص سرقوا الأرض ولم يقنعوا، بل امتد الطمع والجشع بقلوبهم فلم يكتفوا بما سلبوه، بل أرادوا أن يستولوا على كل الأرض ويطردوا السكان الأصليين.
كانت الصغيرة تعلم أنهم أشرار وأن الشجاعة ليست في أن نفر من مواجهتهم، بل الشجاعة أن نتمسك بالحق ونقاوم ولا نظهر الضعف ولا الهوان.
لم تدرك الصغيرة ميرال التي لم تكف عن مناداة الأب والأم أنها فقدت أسرتها في غارة جوية غاشمة، وأنها ستقضي باقي حياتها محرومة من حنان الأم و سند الأب الذي لا يعوض.
لم يرحم المعتدي طفولتها وسلبها حقها في أن تحيا حياة طبيعية مثلها مثل جميع الأطفال، وليس هذا بالجديد فمثلها مثل الكثيرين من الأطفال الذين يفقدون العائل والسند تارَة بالاعتقال وتارَة بالموت جراء الغارات.
في طريقها للمشفى انسابت الدموع من عيونها فما حدث يفوق تصورها كطفلة، ولم تجد سوى الدموع لتعبر عن ألمها ليس ألم الجروح التي انتشرت في جسدها الصغير، فهي وإن كانت غائرة إلا أنها مع الوقت ستلتئم إلا أن الدموع كانت نابعة من القلب تعبيرًا عن جرح غائر لن يستطيع أحد أن يداويه على مر الزمان.
فمن فقد أسرته ما بين عشية وضحاها دون مبرر يُذكر سيصعب عليه أن يتجاوز تلك المحنة وسيكون من الصعب أن يمضي قدمًا في طريق يخلو من حنان الأم ورعاية وتوجيه وسند الأب وعطف الأخ.
دُمتم سالمين بكل ود.
مايو 11, 2023, 9:33 ص
قصة حزينة ومؤثرة
بالتوفيق👍🏻
مايو 11, 2023, 9:51 ص
شكرا لمرورك
مايو 11, 2023, 10:29 ص
يا للطفولة البريئة... التي دفنت أحلامها قبل أن تُحيك أول خيط لها... اللهم كون عوناً لكل أهلنا المسلمين في كل بقاع الأرض... سلمت يداك... ♥️♥️
مايو 11, 2023, 11:15 ص
اللهم امين يارب العالمين 🌹🌹🌹
مايو 11, 2023, 6:55 م
🌷اللهم انصر الاسلام والمسلمين في كل بقاع الأرض🌷
👍
مايو 12, 2023, 9:17 م
اللهم امين يارب العالمين 🌹🌹🌹🌹
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.