قصة "رحلة القطب الشمالي".. قصص قصيرة

خمسة عشر يومًا هي مدة بقائي في البعثة إلى الآن تبقى من المدة ثلاثة أشهر، لم أكن أعلم أنني سأشتاق إلى منزلي وهرتي الصغيرة التي بالكاد قد أكملت شهرها الثاني.

كدتُ أقفز من السعادة عندما علمتُ أني نجحتُ في الاختبارات وسيتسنى لي العمل ضمن بعثة علمية؛ فلقد سئمت العمل في المطاعم.

الآن يمكنني أن أقدِّم نفسي ضمن فريق العمل لطاقم البعثة وهذا من شأنه أن يجعل من حولي ينظرون لي بمزيد من التقدير، ربما تحقق هذه البعثة الهدف المرجو منها وقتها ستتصدر عناوين الصحف، ووقتها ربما أظهر على غلاف إحدى المجلات العلمية ضمن فريق البعثة، وربما تهتم إحدى الصحفيات بالكتابة عن الجانب المساعد في حياة هؤلاء العلماء.

وقد أحصل على مكافأة تمكنني من فتح مطعم صغير لدى عودتي في إحدى ضواحي لندن، وقتها سأستغني تمامًا عن العمل في المطاعم وأتخلص من زهو كبار الطباخين وغرورهم الدائم.

كان الأمر شاقًا في البداية لكوني لم أعتد أبدًا العمل في الأجواء الباردة للغاية، حقيقة أنني مقيمة في لندن منذ مدة طويلة، لكنها بدت دافئة مقارنة بهذا البرد القارس، كما أنني أعمل أغلب الوقت بمفردي، فليس هناك من يساعدني على العكس تمامًا من المطعم، فلقد كنا فريقًا متعاونًا وكل منا له دوره لكني مع الوقت بدأت اعتاد الأمر، لم يكن يساعدني سوى العجوز جون ومهمته كانت تقتصر على التنظيف وصيد الأسماك لهذا كان يقضي أغلب الوقت في الخارج محدثًا ثقبًا في الجليد ليصطاد منه ويجلس إلى الحفرة في هدوء.

كل من بالبعثة أجانب من جنسيات مختلفة، ولكن يجمعنا أمر واحد هو أننا جميعًا نتحدث الإنجليزية بطلاقة.

كنتُ أحسب أن العلماء لا يكترثون لأمر الطعام وحسبت أني سأمضي أغلب الوقت أطارد البطاريق وألتقط الصور، ولكني كنتُ مخطئة بعض الشيء فهم مثل باقية البشر يحبون أن يتناولوا الطعام، وأحيانًا يعودون منهكين فيتناولون كميات مضاعفة، وفي بعض الأحيان يصابون بالإحباط فيتناولون المزيد.

اليوم ذكرى ميلاد أندي، وطلب مني باتريك أن أُعِد كعكة مميزة لعيد ميلادها، وطلب مني أن لا أبوح لها عن الحفل المفاجئ الذي سيقام في المساء.

أعتقد أنه يكترث لها كثيرًا؛ فلقد بدا منزعجًا للغاية عندما جُرحت يدها الأسبوع الماضي، ولم يبدِ سوى قليل من الانزعاج عندما نزفت قدم مادلين، هؤلاء الرجال حمقى في ردود أفعالهم.

أعددتُ كعكة أندي وجلستُ أتابع الحساء واللحم، لم أجد العجوز جون في المطبخ ولا في أي مكان، ربما ذهب ليلهو قليلًا ويلتقط الصور مع طيور البطريق ليرسلها لزوجته كاتي التي أراني صورتها هي وابنه وليام.

لم يكن يزعجني سوى مسؤول العينات، فلقد كان متعجرفًا لأقصى درجة ولا يكثر من الكلام، ويحدق أغلب الوقت في الكمبيوتر اللوحي خاصته ويكتب ويسجل البيانات، غير أنه كان من النوع الذي يحب أن يتناول طعامه على شكل وجبات متفرقة تصل أحيانًا لسبع وجبات، كنت أضطر إلى أن أضاعف الجهد؛ لأن كلارنس أخبرني أنه هو المسؤول عن تقييم الطاقم الفني في النهاية.

كنتُ أشعر بالقلق عندما أراه فلقد كان جادًا لا يبتسم ويصدر الأوامر ويتحدث عن مستوى النتروجين وغيرها من الأشياء التي كانت لا تشغل تفكيري على الإطلاق.

وها هو ذا يعود في غير موعده، جلس كعادته في إحدى الزوايا وطلب مني بعض الطعام وقدحًا من القهوة، كنت بالكاد سأحصل على بعض الراحة ولكنه عاد على حين غرة، ولكن الغريب هذه المرة أنه لا يحدق في الكمبيوتر اللوحي خاصته بل بدا شاردًا بعض الشيء.

أظهرت امتعاضي من قدومه ببعض الكلمات العربية فنظر باتجاهي، ثم فتح الكمبيوتر اللوحي، وبدأ في كتابة بعض الأشياء.

أحضرت الطعام ووضعته أمامه وبدا منشغلًا للغاية، ولكن عقب استدارتي قال بلهجة عربية: أهذه أول مرة تعملين مع البعثات الاستكشافية؟

صدقًا هذه هي المرة الأولى التي تمنيت لو أن الأرض ابتلعتني في جوفها، فلم أكن أعلم أنه يجيد اللغة العربية، ولكني لم أجد مفرًا فأومأت بالإيجاب، تبعني بنظراته وكأنه كان يتلذذ من خجلي وإحراجي. عقب تناوله الطعام هم بالخروج وألقى على السلام باللغة العربية فعلمت أنني لا محالة هالكة.

أخذت ألوم نفسي وأوبخها على سوء صنيعها فلم أتذمر مطلقًا، وها هي نفسي الأمارة بالسوء عندما ألحت علي لأتذمر كان هذا التذمر في غير محله ومع الشخص الخطأ .

في المساء وعقب تناول الطعام، أخرجتُ قالب الحلوى ففرحت أندي واحتضنتني، وطلبت مني أن أنضم لهم في الاحتفال، لكن الليلة لم تمضِ على نحو جيد، فلقد عاد جون جريحًا على إثر اعتداء أحد الحيوانات المفترسة عليه.

قام باتريك بالاتصال بالسلطات وبمقر الهيئة المشرفة على البعثة، فأرسلوا مروحية لنقل جون إلى أحد المستشفيات القريبة. علمت أني الآن سأقوم بمهمة التنظيف إلى جانب الطبخ، كنتُ أكثرهم أسفًا على الحادث الذي وإن بدا أمر طبيعي وكذا إصابات جون ليست بالخطيرة، لكنني أنا التي سأتحمل تبعات غيابه.

قرَّرتُ أن أقوم بالتنظيف عقب استيقاظي بعدها أتوجه للمطبخ لأطهو الطعام دخلت إلى غرف الطاقم لأول مرة ونظرت إلى صور عوائلهم التي كانت تزين الجدران.. كذا كنت أقرأ من باب التسلية في أوراق الهوية خاصتهم، فعلمت أن مسؤول العينات لأب عربي ويحمل الجنسية الفرنسية واسمه محمد، حقيقة لم أعتقد أنه سويدي مثل باتريك وأندي وكذا ملامحه ليست مثل جون ولا كلارنس، لهذا كنت أرجح أنه إسباني، ولكن لم أعتقد أنه عربي مثلي.

عُدت للمطبخ فوجدته ممسكًا بكتاب للطهي ويقرأ فيه باهتمام وقال لي بابتسامة: من الآن فصاعدًا سأساعدك في تحضير الوجبات إلى أن يتعافى جون، وطلب مني أن أسرع لأن الطاقم قد أوشك على العودة.

مع الوقت بدأنا نتجاذب أطراف الحديث، كان ودودًا للغاية وذاب هذا الجدار الذي كان يفصل بيننا، كنتُ أصاب بالذهول من كثرة المعلومات التي يعرفها عن البطاريق وحيوان الفقمة، فلقد بدأ ملمًّا بكل تفاصيل حياة الحيوانات في القطب الشمالي، كنتُ أترقب دخوله لأنصت إليه

مع الوقت تمنيت لو يبقى جون في المستشفى أو أن يعتذر ببساطة عن إكمال مهمته، فلن أستطيع أن أتخيل المدة الباقية دون أن أستمع إلى حديثه الممتع.

صرتُ أعرف الكثير عن إخوته ووالدته وبعض أصدقائه، كان يتحدث بعفوية ويشرح لي بعض الأمور العلمية، بدا مميزًا ومختلفًا عن باتريك وكلارنس.

أصبحت أترقب عودته للمطبخ بفارغ الصبر، ما كان يقلقني أني سأعود بعد انقضاء البعثة إلى المطعم السابق في لندن، حيث اعتدت أن أعمل وهو سيعود إلى فرنسا.

لكم تمنيت أن تنتقل أسرتي لفرنسا ولكن أمي لن توافق، فلقد اعتدنا على العيش في لندن عقب ترك الوطن منذ عشرين عامًا، وأعتقد أنه من الصعب بل من المستحيل أن أطلب منهم العيش في فرنسا، كما أنه عالم وكل فترة في مكان مختلف.

أيقنتُ أنني بهذا المشاعر التي أكنها تجاهه في طريقي الهاوية، وأنني وحدي التي سأشقى جراء تعلقي به، مع الوقت أصبح يُتقن جميع أصناف الحلوى التي يحبها، بل صار يتفوق على فلقد كان حاد الذكاء سريع البديهة لدرجة كبيرة.

عاد العجوز جون بعد شهر كامل سعد الجميع بعودته كما أن محمد قد صنع له قالبًا من الحلوى احتفالًا بعودته، بدا الجميع سعداء لعودته عداي، فلقد كنتُ أشعر بقليل من الحزن يتسرَّب إلى نفسي.

لكنه لم يتوقف عن مساعدتي على الرغم من عودة العجوز جون، وفي يوم كنتُ أُعِد الحساء الساخن وهو كان يقطع بعض اللحم، وقال لي أريد أن أخبرك بأمر هام، حسبتُ أنه سيخبرني أنه لن يستطيع أن يشاركني في إعداد الطعام، لكنه غسل يديه وقال لي: أنت تشبهينني للغاية في كل شيء، لقد أعجبتُ بكثير من النساء، ولكنكِ الوحيدة التي أريد أن أكمل حياتي معها إلى الأبد، وأخرج من جيبه خاتمًا ووضعه في إصبعي، فبكيتُ بشدة؛ لأنني بصدق لم أتصور حياتي دونه.

دُمتم بكل ود.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

قصة جميلة عزيزتي..
سرد محمس وجذاب..
أسلوب سلس ومرن..
المبدعة المتألقة اسماء غاليتي ❤️❤️❤️
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

صديقتي الغاليه تسعدني دائما كلماتك واستقي من جمال كلماتك روحا إيجابية دمت لي سنداً وودا ♥️♥️♥️
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة