حياة رياح أيلول الشَّاحبة تتسلَّل من نافذتها؛ فيترنَّح قفصٌ فارغٌ على شرفتها؛ وتتطاير حفنة من الأوراق الممزّقة، وأوراق الشّجر الأصفر فوق طاولتها...
تطوف حول صمت آنيةٍ مكسورةٍ من الكريستال؛ تناثرت شظاياها داخل سطورٍ قرأتها، وأخرى كتبتها؛ لتفرغ شحنات حزنها بلا جدوى. من نافذتها البحرية الأخرى، تبدو آلاف النّوارس تهبّ كالرّيح المرئية، ودفاتر زرقاء تقلّبها أصابع البحر.
الموج يحاصر الشّاطئ، ومرايا الشمس تتناوب في إسقاط بقع الضوء، فوق أوراق قصّةٍ كانت تتوسّدها:’ ’نحن الأصحّاء الذين نخجل منك، فنواريك عن أنظار الناس، لأنَّ الأطفال بالنسبة لنا للتَّباهي، امتداد لأنا المتغطرس؛ ابني جميل مثلي، ذكيٌّ مثلي، خفيف الظّل مثلي، أما حين يكون معاقًا فأسجنه في إعاقته.‘‘
تترسّبُ كلمات الدكتورة هيفاء بيطار في قاع روحها؛ فيطفو حزنها على السَّطح من جديد. أيلول موسم العودة للمدارس، موسم فرح الطفولة بالحقائب الملوّنة الجميلة، والأقلام الزّاهية، ودفاتر الرّسم والموسيقا، والتعرُّف على أصدقاء جدد.
تتابع قراءة القصّة وهي تجهش بالبكاء: ”لن تذهب إلى المدرسة، ولن تترفّع من صفٍّ إلى صف... ولن يكون لك أصدقاء دراسة، ولن تمارس الرياضة، ولن تتذوَّق الفن... ستبقى أشبه بالمادة الخام التي نسي الصَّانع بردختها وتطويعها.‘‘
يدخل زوجها غاضبًا حدَّ الانفجار، معترضًا على حكم القضاء والقدر، يُمزِّق قصَّةً كانت بين يديها، ثم يوبِّخها بقسوةٍ:
- منذ أن أنجبت هذه المنغولية المعاقة، وأنت تدمنين قراءة هكذا قصص!
- اتّق الله يا رجل... لا تقل عن طفلتي هكذا؛ فهذا قدرها، ولا ذنب لها به.
يعبر خيال والديها المتشاجرين طيف جسدها الشَّبحي النَّحيل، بمشيتها العرجاء المتعبة، وصوتها المبحوح من أثر البكاء.
تهرب من صراخهم؛ لتختبئ بين ضحكات الأطفال المتصاعدة من الشارع المحاذي لجارها البحر.
تسافر كلَّ يومٍ مع نوارسه المدهشة بعينيها المائلتين الصَّغيرتين حتى آخر نقطة في الأفق.
تراقب الأطفال وهم يمرحون، تضحك لضحكهم وهم يلعبون، تبكي لدموعهم وهم يتشاجرون، كم تتمنى أن تكون معهم!
صراخ والدها الغاضب دائمًا كأرجوحة؛ يقذفها إلى الشّرفة مرارًا، ويسحبها منها مرارًا: - قلتُ لك ألف مرّةٍ لا تعرضيها على الجيران، اقفلي عليها باب غرفتها. ماذا سيقول الجيران؟ هذه المنغولية ابنة الأستاذ سامي!
- اتّق الله يا رجل؛ وحدك من يعتقد أنَّها مخجلة... انظر كيف يتعامل الناس مع شبيهاتها بحنانٍ.
- تدافعين عنها! ألا يكفيك أنّك عجزت عن إنجاب طفل سويٍّ ككلّ الأطفال.
تهرب حياة من الأطباق الطائرة، وثورات الغضب، والكؤوس المحطَّمة، ودموع والدتها إلى قفصٍ يضمُّ صديقها الكناري. رأسها الصغير، وإدراكها لا يجعلانها تفهم سبب المشكلة! لكنّها تشعر في كل خلية من خلايا جسدها المنهك بحجم الكراهية المحاطة بها.
الخوف هو الحقيقة الوحيدة التي أدركتها حياة باكرًا، وبكل وضوحٍ وقسوةٍ. تقترب من سور شرفتها، تمتطي حدقتاها صهوة الأمل، تمدّ يدها للمارة، وكأنّها في سجنٍ تتمنى الخروج منه.
تصرخ بقوّةٍ للبحر؛ يقترب منها أكثر، ويغرق قبل الوصول إليها بين حبّات الرّمال.. تصرخ له مرًّة أخرى؛ فيصفعها والدها بقوّةٍ: - قلت لك ألف مرّةٍ كفاك صراخًا؛ صوتك يزعجني.
بكاء أمها يعلو، يغلق زوجها فمها بيده الفظَّة الغليظة، بينما عيناها تتعلقان بورقة من القصّة الممزّقة، التي لا زالت على الأرض: ’’تطنُّ أذناي بصوتك الحاد أحيانًا، والواهن أحيانًا أخرى. صوتٌ عار من أيّ زينة، صوت نقيٌّ كصوت الرّيح والشّلال، صوت صامتٌ كالدمع، يعيدني صوتك إلى الكلمة الأولى: الحق. "تحضنها والدتها، تحملها إلى المطبخ، تطعمها فتات شفقتها، تغسل غبار وجهها بدموعها النَّادمة، كلَّما تذكرت أنّها كانت تسخر من طفل معاقٍ، كان معها في المدرسة، يوم كانت بعمر ابنتها حياة. تهدهد أوجاع جسدها وروحها؛ كي تغفو، ثمّ تضعها في سريرها.
كعادتها.. تهرب حياة من غرفة نومها، تتكوَّر في زاوية الشرفة، تضع القفص في حضنها، تبثُّ وجعها لصديقها الكناري، تتدثّر بظلّ الياسمينة، ثمّ تنام .
تستيقظ الأم بعد شجارها الأخير ملهوفة، تبحث عن طفلتها. تتفقّد شرفتها بخوفٍ؛ فتراها تنام على دميتها المشوهة، وقد حاصر البرد جسدها الصغير.
ابتسامة شاحبة ترفرف على وجنتيها، وَطوفانٌ من النّور يقتحم حدقتي عينيها، المعلّقتين بسرب طيورٍ يغرّد انتحابًا، وإيذانًا بالرحيل إلى بلاد الدّفء البعيدة.
قفص الكناريا في حضنها مقلوبٌ كحياتها.. قضبانه تلاشت، وبابه المفتوح صار نافذة على الفضاء الأزرق، تعبرها الأرواح السَّجينة بسلام.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.