قصة «حكاية زهرة».. قصة قصيرة

لا يزال يذكر طلعتها المشرقة في أول مرة بمكتبه؛ حين استقبلها مرشحةً لشغل منصب محاسبة في قسم المالية بالشركة... بيضاء البشرة، أنيقة، رشيقة، جميلة المحيا... تجيد الإصغاء، وتتحدث بلباقة قل نظيرها، وتجيب على الفور بفصاحة واقتضاب، قبولها ضمن طاقم إدارة الشركة كان قيمة مضافة.

اندمجت مع أجواء الشغل بسرعة، بفطنتها ودماثة خلقها وتفانيها في العمل؛ اكتسبت سمعة طيبة بين موظفي الشركة.

جسَّت روحًا تنافسية، وأضفت لمسات فنية وتقنية، كشفت بها عن جزء من مهاراتها وقدراتها، ما جعلها تسترعي انتباه المدير. وسرعان ما جازاها بتقريبها منه إلى أن أصبحت سكرتيرته الخاصة.

وحينئذ سيكثر القيل والقال في صفوف الفاشلين والمنافقين من "شلة زملائها وزميلاتها"، فتجرؤوا مدفوعين بحقد دفين، وحسد ذميم، وأطلقوا سياط ألسنتهم الملتهبة دون وجه حق... لقد هتكوا عرضها، ومسوا بشرفها؛ حين سوَّلت لهم أنفسهم إلصاق تهمة: "إغواء المدير، وإيقاعه في شركها".

ومما زكَّى ظنونهم كونها امرأة مطلقة في عقدها الثالث، لم يُكتب لعلاقتها - بأب ابنها الوحيد - الاستمرار لمشكلات عائلية متراكمة، ما اضطرها للانفصال عنه، لتتحمل مسؤولية فلذة كبدها "زهير" البالغ من العمر سبع سنوات، الذي يعاني إعاقة ذهنية.

من أجله خرجت للعمل... فوجد الأراذل فرصة سانحة؛ نسجوا بها -بمحض ادعاءاتهم الباطلة- علاقة مفترضة بمدير الشركة الخارج من تجارب زواج ثلاث مرات، باءت جميعها بالفشل.

في ظل هذه الظروف الاستثنائية التي مرَّا بها معًا "زهرة" السكرتيرة و"السي المعطي" مدير الشركة الذي أنهى عقده الخامس، وجدا في انهماكهما في العمل عزاءهما، فراحا يفرغان كل وقتهما وجهدهما فيه بعيدًا عن نبض المشاعر...

ومع ذلك تناسلت الإشاعات حولهما، حتى ضاقت "زهرة" ذرعًا بها، فلزمت البيت أيامًا عدة؛ من جرّاءِ إصابتها بوعكة صحية، ما هي في الحقيقة إلا مرحلة تفكير عميق للتخلص من ضغط نفسي ألمَّ بها، إلى أن تمكنت من استجماع قواها، وشحذ همتها، بإصرار هادر لا يُقاوم، وعزم لا يلين للتشبث بعملها، نظرًا لحاجتها إليه في إعالة طفلها ووالديها. فقررت أخيرًا أن تواصل طريقها غير عابئة بالأقاويل.

ولتتابع المسير؛ كانت تستمد طاقتها الإيجابية من ضحكة ابنها "زهير"، ورضا أمها "فاطمة"، ودعاء أبيها "إدريس"، وتقتبس جذوة حماسها من تأملها هُنيهة أمام المرآة كل صباح، مخاطبة نفسها: "واثقة الخُطا أمشي... نسيجي ليس من خيوط العنكبوت، ولا جلدي من جلود الثعابين... أمتشق صدقي وأمضي نحو عنان السماء..." بهكذا عبارات محفزة؛ تفتتح "زهرة" يومها، متجهة صوب عملها... قوية هي كالريح، رقيقة كالياسمين... تنساب عزيمتها طموحًا للعلا، ضدا على أراجيف المتشدقين، وكيد الحاقدين "أعداء النجاح"...

بمجرد عودتها إلى العمل ذات صباح، انهمكت تجمع شتات ما تراكم عليها من أشغال، ولما أقبل المدير نادى عليها فجأة، تركت كل ما بيدها، واتجهت إلى مكتبه مرتبكة، لا تدري ماذا سيقول لها، هل يطردها، ويستغني عن خدماتها؟ أم سيسأل عن أحوالها؟!

وما إن فتحت الباب حتى استقبلها بترحاب ينم عن تقدير شديد، وطلب منها الجلوس. في هذه اللحظة هدأ خاطرها، وانفرجت أساريرها، ومع ذلك أصرت على البقاء واقفة، ملازمة مكانها.

بادرها بالقول:

- "السيدة مليكة، حمدًا لله على سلامتك، أتمنى أن تكوني بخير الآن؟"

أجابته:

- "بخير ولله الحمد..."

تحدثا عن أمور الشغل، وما علق منه في أثناء غيابها، ثم انصرفت إلى مكتبها بأدب جم.

توالت الأيام والشهور، وفي صباح يوم ربيعي قدمت "زهرة" للمدير أجندة يوم العمل كالعادة، تسلَّمها منها ووضعها جانبًا على المكتب، قائلًا:

- "السيدة مليكة، أتسمحين بالجلوس لحظة من فضلك؟"

أجابت باستحياء:

- "خيرًا سيدي المدير، هل من خدمة؟"

قال:

- "اطمئني، خيرًا إن شاء الله... تعلمين أنني أحترمك وأقدرك منذ أن وطئت قدمك شركتي... ولم يصدر مني ما يسيء إليك، لكنني اليوم، من فرط إعجابي بشخصيتك، أطلبك للزواج على سنة الله ورسوله إن وافقتِ..."

كلمات أطلقها متتالية ككتل نار حارقة... عبارات عفوية كانت مكنونة في صدره، ببوحه بها، وتعبيره عنها، شعر بالخلاص، وأربك "زهرة" التي بقيت مشدوهة لم تنبس ببنت شفة... وسرعان ما استطرد قائلًا:

- "أنا أقدِّر ظروفك، وأعلم ملابسات حياتك السابقة، وابنك سأعدَّه -إن سمحتِ- ابني الذي لم يشأ الله أن يكون من صلبي... يبقى القرار لكِ، سامحيني، أنتِ حرة، فكري في طلبي هذا، أنا في انتظار جوابك."

استأذنته بالانصراف، وراحت تمشي الهوينى، خطوات تخطوها إلى عتبات باب المكتب، يحس بها تطأ شغاف قلبه، أمر لا يتصور على بال، ولم يكن في الحسبان... زفَّت الخبر إلى أمها، وتناهى إلى سمع أبيها، فرح الوالدان، وحفزاها على الاقتران، وبزواجهما أخرسا ألسنة أهل النميمة والبهتان، وقطعا دابر الشيطان.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

حفظك الله، ويسر خطاك، شكرا على المتابعة، تحياتي.
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

إبداع..................عظيم
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة