عشت وحيدًا منعزلًا منذ ما يقرب من عشر سنوات. بعد تجربة قاسية جعلت مني حطام إنسان. تجربة هوى ليس لها صلة بروايات العشق المثالي أو حتى الواقعي. تجربة بدلتني من قلبٍ سعيد إلى قلبٍ شقي لا يملك إلا حزنًا. من وجه بشوش إلى عبوس. من روح تتحلى بالمرح والفكاهة إلى سليط اللسان لا يعرف فنًّا للرد أو أدبًا في الحديث. وخاصة مع ما يسمى بجنس النساء.
أجد نفسي سعيدًا كالطفل حينما أختلي بنفسي منفردًا بتلك الألعاب الصبيانية. أركض خلف دمية متحركة تتراقص أمامي. أو قطار أجمع أجزاؤه ثم أفككه ثم أعيد بناءه لأشعر بإنجازاتي الطفولية.. حتى أستسلم للنعاس.. عبث ما وراءه عبث.
ولكن حينما أخرج إلى دنيا الناس، أراني بلا طفولة. أراني بلا قلب، أراني بلا أنا.
جميع من حولي يتجنب الاحتكاك بي، ذكرًا كان أم أنثى، فأجد نفسي وحيدًا بين أوراقي وأقلامي، خير الأصدقاء لي.
ينتهي عملي. أحمل بيدي إحدى دفاتري الصغيرة لأفرغ بها فيضًا من تدويناتي وأفكاري، التي كثيرًا ما تخطر ببالي وسط هذا الزخم والزحام البشري.. وأذهب إلى ذاك المطعم الذي اعتدتُ تناول العشاء يوميًّا فيه لقربه من مقر عملي.
أنتخب منذ سنوات تلك الطاولة القاصية دائمًا، محاولًا الابتعاد والاختفاء عن أعين الحاضرين بالمطعم، وكأني أتوارى من البشر. أشهد أني فظٌّ مع من حولي بلا استثناء على عكس طبيعتي. ولكن سجون الوحدة تفعل بنا الأفاعيل. فمن كان يقربني تحمّل فظاظتي، ومن عاهدني حديثًا تجنبني.
ما يقرب من عشرة نادلات يعملن بالمطعم، لا تمتلك إحداهن الجرأة لخدمتي أو تلبية رغباتي بعدما نلن مني بعضًا من وقاحتي.. إلا تلك النادلة التي اتسمت دائمًا بشجاعتها وصبرها على تلك الوقاحة. لا أدري أهذه إحدى سماتها أم تتماسك لتحظى بذاك البقشيش الذي أتركه لها.
تعمل هذه النادلة بالمطعم منذ ما يقرب من عامين ونصف العام، في حين اعتدت أنا الحضور إلى هذا المكان منذ ما يقرب من خمسة أعوام.. الكل يتعامل معي بحذر شديد لعصبيتي المفرطة، ولكن منذ حضورها وهي تتولى أمري، استطاعت أن تروّضني كما يُروّض الأسد الهائج في عرينه. انصعتُ لها تمامًا حتى بدأت الصداقة بيننا.
عامان يمضيان وهي تحاول فك رموز شخصيتي الغامضة.. لا تعلم عني سوى أني كاتب، مع ظني أنها لم تقرأ لي شيئًا قط.. وقد أخطأتُ الظن فيما بعد.
لست أدري لماذا تعلّقت بها لهذا الحد. أفكر بها كثيرًا، أشتاق لوجبة العشاء يوميًّا ولو لم أشعر بالجوع. كنت أذهب فقط لأراها محتسيًا كأسًا من الشاي أو قدحًا من القهوة، متأملًا بشاشة وجهها.
عزمت أن أعود إلى سابق عهدي من الضحك، وأن أتخلى عن فظاظتي، وأن أتحلى باللين وعذب الكلمات. قررتُ وعزمتُ في تلك الليلة الباردة أن أقدم لها شيئًا من الاعتذار عن تلك الوقاحة في الحديث معها خلال الفترة السابقة.
دلفتُ في تلك الليلة إلى المطعم أتفحصه وكأني أحضر هنا لأول مرة. ولكن كنت أشعر بالبحث عنها. لملمت نظراتي، وأسرعت الخطى حينما لاحظت الجميع يترقبني. وما إن جلست على طاولتي إلا ورأيتها تقف أمامي، مبتسمة كعادتها. تسألني في لطف بعد الترحاب بي:
«قدح القهوة أم أحضِر العشاء؟»
ابتسمتُ لها كغير عادتي، لينطلق من فمي اعتذار رقيق لها عن فظاظتي فيما سبق.
زادت بسمتها وهي تقول: «لا عليك سيدي، فهذا عملي ودراستي في آن واحد».
تساءلتُ: «دراستك؟ وماذا تدرسين؟»
قالت: «على أبواب مناقشة رسالة الماجستير في علم النفس الاجتماعي».
قلت: «وعلى ذلك تهوين القراءة؟»
قالت: «نعم، ولكن ليس ما أقرأ في علم النفس فقط. فأنا أهوى القراءة بوجه عام، والروايات العاطفية بوجه خاص، للكاتب ذو الاسم المستعار «العاشق الجريح». و...؟»
سألتها: «وماذا أيضًا؟»
قالت: «وقراءة قصص الأطفال، للكاتب «الحكيم مروان»، والذي أظنه اسمًا مستعارًا أيضًا».
ابتسمت وهي تقول لي: «أراك تراني طفلة؟»
نظرت إليها مبتسمًا لثوانٍ، ثم استأنفت حديثي قائلًا: «كل منا به طفل بين جنباته يريد التحرر والانطلاق، ولكن الكل يخشى الكل، فنبني بتلك الهيبة سورًا بغيضًا يحرمنا لذة براءة طفولتنا طول العمر. فالأب يخشى هيبته وسط أبنائه، والأم تخشى عدم السيطرة عليهم، والمدير يخشى مركزه بين العاملين معه، والمدرس يحافظ على احترام تلامذته له، وهكذا... هناك الكثير والكثير».
ابتسمتْ وهي تقول: «ولكن قد ينطلق هذا الطفل من رجل بين يدي زوجته، أليس كذلك؟»
قلت: «ربما، ولكن أيضًا يكون على حذر إن وُجد بينهما المودة والألفة. ولكن ماذا يعجبكِ في القصص العاطفية والطفولية تلك؟»
قالت: «أراني في كل قصة من قصص الأطفال أعيش واقعها. فأنا قد ماتت أمي حين ولادتي، ومات أبي وكنت صغيرة السن، ورعتني جدتي حتى ماتت منذ عام. فأنا لم أعش طفولتي الطبيعية كسائر الأطفال بين أحضان أمي وحنان أبي».
اعتذرتُ منها مرة أخرى لتذكيرها بتلك الأوجاع.
فقالت: «لا عليك سيدي. أما الروايات العاطفية، فأشعر بالغربة في معايشة واقعها العاطفي الشديد، والابتعاد عمّا بها من آلام. فتارة أجد نوعًا من العشق المثالي الذي لا يوجد في واقعنا، وتارة أجد نوعًا آخر تكسوه الآلام والأوجاع. نوعان متناقضان لنفس الكاتب الذي أظن أنه يبحث عن طفولته في تجسيد هذا العشق المثالي، ولكن في واقعه يعيش قسوة أوجاع ذاك العشق الواقعي».
رغم نبشها للجراح ووضع يدها على موضع ألمي، إلا أنني نظرتُ إليها سعيدًا بتحليلها لتلك الروايات، والذي كان منطقيًا حقًا، مستأنفًا حديثي معها قائلًا: «تحليلٌ رائع، تستحقين عليه درجة الأستاذية حقًا. ألا ترين أني أتناول العشاء منذ سنوات بمفردي؟ هل أحظى منكِ بشرف العشاء معي الليلة القادمة؟»
قالت ببسمةٍ رُسمت على خديها: «سأدبر أمري حتى أنال أنا ذاك الشرف، سيدي. سأحضر لك العشاء الآن».
ابتسمت، ثم انصرفت.
تناولتُ العشاء وانصرفتُ بعد الوعد منها بتناول العشاء معي الليلة المقبلة.
في اليوم التالي، كنتُ أنتظر مرور الوقت لموعد العشاء كمن ينتظر فرحة عارمة أو خبرًا سارًّا. كطفلٍ يعود إلى أحضان أمه بعد سنوات الضياع.
حضرتُ إلى المطعم، وبينما أجلس، استقمت واقفًا في اللحظة نفسها حين رأيتها وقد تزيَّنت في أبهى زينة، بالرغم من عدم تكلفها فيه. جلسنا، وطال الحديث بيننا عن ماضٍ نتمنى ألّا يعود. لم أُبالِ بمن حولنا، ولم أرَ غيرها في تلك الليلة.
وجدتني، وقد زادت شجاعتي، أقول لها: «أتقبلين أن تمتلكي ما بقي من العمر؟ هل تقبلين أن ترمِّمي ما بقي من حطام ذاك الرجل الماثل بين يديكِ؟ وأن نُكمل طريقنا معًا؟»
ومع تلك الابتسامة الجميلة التي ارتسمت على وجنتيها، لم أتسرع في الجواب منها. فمن يقبل بذلك الوقح؟
وفي لحظاتٍ من الصمت، قدَّمتُ لها هدية صغيرة، قائلًا: «سأنتظر الرد، سلبًا أو إيجابًا».
نظرت إليَّ، ثم فتحت هديتها، وهممتُ أنا بمغادرة المكان.
فتحت هديتها لتجد نسختين جديدتين للكاتب «العاشق الجريح» و«الحكيم مروان»، وعليهما إهداء لها يقول فيه:
إلى من نبشت وداوت جراح العمر
عشتُ فظًّا وسأموت مبتسمًا
هذا وعدٌ مني لكِ يا طبيبتي
إهداء من عاشقٍ وُلد على يديكِ
تهللت من الفرحة، ونادت عليَّ على مرأى ومسمع الحاضرين قبل أن يُفتح باب المطعم، صارخة: «أيها العاشق! أعلم أنك أنت العاشق الجريح منذ سنوات، وأعلم أيضًا أنك الحكيم مروان!».
انتبه إليها مبتسمًا، وهي تقول: «أوافق، أوافق على أن يكون مهري أنت قبل عشر سنوات، وأنت تمحو من الذاكرة تلك السنين العجاف».
ابتسمتُ وكأني طفل عاد إلى أحضان أمه حقًا، أرغب في اللهو والضحك، وبداخلي بركان مشتعل من الأشواق.
فتحتُ أحضاني على مصرعيها، وجدتها تجري نحوي دون تفكير، وعانقتني.
سألتني، وهي بين أحضاني: «ألم تعشق يومًا قط؟»
قلت: «بلى، ولكن تركتني لقناعتها بأني لا شيء، ولا أصلح لأي شيء».
قالت: «ولكنك أصبحتَ لي من الآن كل شيء».
مرت الأيام سريعًا، وأعدّا معًا كل شيء، ببيتٍ يليق بعاشقين.
وفي يوم الزفاف، وقف الحضور متعجبين من جمالها وبسمته العريضة، وفرحتهما معًا.
قالت إحدى الحاضرات في عجب: «أهذا الفظّ؟ وتلك النادلة؟»
بادرتها الأخرى: «نعم، أحبها، فزادها حسنًا فوق حسنها، وجمالًا فوق جمالها.
وأحبّته، فزادته هيبةً ووقارًا، ومحت بالحب آلام السنين».
نعم...
حُطام اليأس يجعلنا كؤوسًا حُطّمت، سُكبت
فيأتي الحبُّ يجمعها كباقةِ زهرٍ قد وُهِبت
ويمحو فينا أوجاعًا بقلبِ القلب قد سكنت
يُلمْلم حلو ما فينا، ويُطلق بسمةً سُجنت
أن قلت أنك موسوعة إبداعية
لآ أبالغ تحياتى وتقديرى لك ي سفير
الكلمات 🙏❤
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.