قصة "جدران خافية" ج2

وجال في خاطره أن الأشغال التي أقيمت في المقهى لتجديده بما يتلاءم مع اقتناء مالك جديد إياه التي اقترنت بتغيير طاقم العمل بكامله، ستترافق بالضرورة مع تغيير في لائحة المشاريب المقترحة.

فعنَّ له سؤال مرَّ بسلاسة سريعة، سرعة البرق من خاطره إلى لسانه:

كم لديك من نوع؟ أقصد، ما جديد مشاريبكم؟

هل تريد معرفة كل شيء؟

من فضلك!

من الشاي خمسة أنواع.

ثم توقف عن الكلام مهلة من الزمن مرت كدهر، أضاف على إثرها:

من مزيج القهوة الطبيعية نوعان، ومن القهوة المركزة خمس...

وطال بهم الحديث قبل أن يستقر اختيار الزبون الفضولي على قارورة من المشروبات الغازية الحامضة، إذ لم تتغير قائمة المشاريب تغيرًا ذا بال.

الألحان تتعالى شجيّة في أرجاء المحل الفسيح، فتأخذ بخيال الرواد بعيدًا مع أحلام الصبا الماضية بحلوها ومُرِّها، ومع ذكريات الأحبة وأضغان الماضي وصداقاته، وجلسات الخلّان وسهرات الأنس والوصال.

فمعظم رواد ذلك المقهى الصباحيّون عادةً ما يكونون من الشيوخ، الذين يسارعون عادةً إلى حجز موقع جذَّاب في المحلّ، تضاهي الكينونة المفقودة التي تبتغي منهم نحت أشكال من الحياة أكثر حركيّة، بل لعلَّها محاولات يائسة لتدارك ما فاتهم في مراحل العمر السابقة، أو للتأقلم مع مرحلة مخصوصة من مرحلة العمر المتقدّمة.

أما الشباب، فأوان حضورهم هو المساء أو الليل؛ فهم عادةً ما يحيونه في أرجاء ذلك المحلّ في احتساء المنبهات والتدخين ولعب الورق.

عدا واحد فقط...

إنه النادل "قاسم"، الذي كان في أواخر الثلاثينيات من عمره، على عتبة الأربعين. يمتاز بمرحه وحبِّه للحياة، وكان متابعًا شغوفًا بأخبار الكنوز منذ العشرينيات من عمره، حدَّ الهوس بذلك، ولكن دون أن يحظى بطائل.

وقد تبِعه في ذلك الهوس صاحبنا، الذي قرَّر المغادرة مع اقتراب حلول موعد العمل المنتظر.

قام من كرسيه واستأذن، ووعد نفسه بإعادة الكرة مرَّة ثانية.

هكذا، قرر المرور إلى العمل، دون مقدمات، وفي ذهنه شيء ما يخترق وجدانه، يريد أن يتذكره بإلحاح، لكن دون جدوى.

قال في نفسه: "ما أتذكره، أني نسيت أمرًا ما، مؤلمًا، أو لعلَّه غير ذلك... لا أعرف. ولربَّما لو تذكرته لمنعني من العمل الجدي الذي ما زلت بحاجة إليه لخلاص الدائنين، وضمان استمرار حياة الكفاف التي تؤرقني." هكذا خطر في باله، لكنه لم يُعرْ ذلك الخاطر أدنى اهتمام. وهكذا قطع عبارته فجأة، وقد أخذت عَبرة تتَّخذ لها محلًّا في محيط حدقتيه، أمسكها فتجمدت كالحجر... لا وقت للعَبرات، ما دام العمل ينتظرني.

ثم عنَّ له خاطر غريب...

لقد تذكر فجأة حديثه مع ابن عمه الوليد. كما تذكَّر أنَّه لن ينسى أبدًا رجاءه إياه ألا يتوانى عن طلب سُلفة إن مرَّت به ضائقة مادية.

وقرَّر للحظات أن يتراجع عن العمل، وأن يتَّصل بقريبه المذكور، لكنه تذكَّر، في لمحة خاطفة، آلام ظهره التي كانت تحلّ به فجأة دون سابق إنذار، وتتلاشى فجأة بمثل ما تحلّ به من سرعة.

وللحظة واحدة، استغرقت جزيئات بسيطة من الثانية، تلاشت الذكرى مرة أخرى مع وصول صوت مشغله المفترض وهو يناديه بعد تحية شاملة لكل الحاضرين.

يومكم طيب!

فرد عليه بحماس وشرود: "ويومك على أسعد ما تكون الأيام!"

هل أنت مستعد؟

طبعًا، كالعادة، وككل مرة.

ما دمت في الموعد فأنت لا شكَّ مستعد.

ابتسم هذه المرة وهو يتحسَّس جيب سترته الداخليّ، يطمئنُّ على وجود علبة السجائر محلِّها.

ووعد نفسه بالتدخين بنهم، بعيدًا عن رقابة الزوجة، فانتشى غاية الانتشاء لمجرَّد التفكير في ذلك وابتسم ابتسامة عريضة وقال بحماس واضح: "ها أنا ذا، فلننطلق فورًا."

وصلا الموقع، ها هما أمام الجدار الذي يريد له صاحبه أن ينقضَّ، بفعل المطرقة حين تأخذها يد صاحبنا.

أخذ العامل ينظر إلى الجدار بتحدٍّ وثقة، لكأنَّه المقاتل يحدد استراتيجية لمواجهة خصمه في أثناء فحصه لسلوك منافسه المفترض وهو في طور الملاحظة الأولية.

لامس الجدار، وبقوة ضغط عليه...

إنه جدار قُدَّ من آجرٍ طينيٍّ استوى في الفرن.

قد يتطلب استواؤه أيامًا طويلة، لكن هدمه لن يستغرق أكثر من سويعات في أقصى الحالات.

تسمَّر "الصانع" قليلًا لا ينبس ببنت شفة، ثم انحنى يتناول من قفته المطرقة المناسبة.

أخذ يضرب الجدار في ركنه الأعلى؛ وسطه تمامًا. ثم أخذ ينزل ويصعد مع كل ضربة.

ها هو الجدار بدأ يتخلخل شيئًا فشيئًا.

كان صاحب البيت يراقب العمل بشغف واهتمام، وقد أخذ منه التفاعل مأخذًا عظيمًا، لكأنَّه ينتظر شيئًا ما بدا خافيًا وسط الجدار، أو مخفيًا في قلب الجدار المذكور، فقد كانت عينيه تلتمع ببريق غريب.

ومع كل طرقة وحركة صاعدة أو نازلة، راح الجدار يتخلخل بشكل مطَّرد، ورويدًا رويدًا أضحى التخلخل يتحوَّل إلى رعشات بائنة تعبث باتجاه وقوف الجدار مستقيمًا، عاليًا. ثم توالت الدقات صعودًا ونزولًا وزادت كثافتها... كما أخذت الهواجس تنصبُّ على ذهن صاحب المطرقة الذي لم يكن عابئًا بوقوف صاحب الجدار وراءه، تزامنًا مع كثافة طرقات العامل التي أخذت تزداد عددًا وقوَّة.

المولد النبوي الشتوي لهذا العام على الأبواب، ابنته تحتاج ملابس جديدة، لتظهر على خير ما يكون خلال تلك المناسبة، فليست بأقل شأنًا من قريناتها.

(انتهى الجزء الثاني).

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة