لا أعرف ما الخطب بينه وبين الجدران...؟
يعرفها كما يعرفها كل بنَّاء وغوَّاص في أكوام الأَسمنت المسلَّح الممتزجة بالرَّمل وبحجارة المقاطع.
كان يبنيها بيديه ويخضِّبها كحنَّاء عروس. ليحتمي متساكنوها داخلها، فتقيهم الحرَّ والقرَّ. وتحميهم تقلُّبات الخريف والرَّبيع.
لكنَّه لم يكن ليتوقَّع يومًا أن يحدث معه داخلها شيء بمثل تلك الغرابة...
يومئذ كان يشكو أوجاع ظهره، وورمًا خفيفًا تحت ركبة ساقه اليسرى، ولكنه ظل يكتم ما سبَّبه له ذلك من آلام قاسية.
هل أصبح على ذلك القدر من الهشاشة بحيث يتمكن منه ألم صغير؟
أو لعلَّه كبر، فخارت قواه، فلم يعد بوسع فترات عمله اليدوي أن تطول أكثر ممَّا يجب.
لكنَّ مظهره الخارجي أبدًا ما كان ليوحي بذلك ألبتَّة؛ فقد كانت تغلب عليه مسحة الشباب، ممتلئًا حيوية، ولعًا بالعطور، يتسلح بها ضد روائح العرق التي يكاد يستحم بها، وتصبغ ملابسه بلون أبيض متنوع في تدرجاته، داكنة وفاتحة، كبيرة وصغيرة، متقطعة أو ممتدة، واسعة في انتشارها أو منحصرة... فتغدو بذلك لوحة رسَّام انطباعي أو تجريدي.
ثم إن مظهر جسمه الممشوق، ووجهه ذا الملامح الدقيقة، كان يوحي للناظر بتمتُّعه بطفولة سرمدية تكاد تلحقه بأساطير تتعلق بالكائنات التي لا تخشى الموت مهما اعترض قدرها الهلاك، ذلك أنها تتفوق على الموت ذاته.
في أحد الأيام استدعاه أحدهم لعمل مألوف: إسقاط جدار في قلب المدينة القديمة، لمنزل عتيق. لقد كان منزلًا حديث الاقتناء، متصدع البناء، مهجورًا إلا من بضعة أعشاش هجرتها طيور السِّنونو بدورها.
يومها أُعْلِم بالخبر وهو بصدد تناول إفطاره. وكانت زوجته جالسة قبالته فسقطت ملعقتها وكانت ممتلئة طعامًا، فتناثرت حبَّات الكسكسيِّ على امتداد أمتار حولها على أرضية الغرفة.
لكنها تجاهلت الأمر على توجسها منه، ونظرت إلى زوجها مشفقة وقالت بحنوٍّ: "تاب اللّه علينا من هذا العمل الشَّاق! هلَّا بحثت عن عمل في البناء؟".
رد بهدوء أسطوري:
- سواء، أَبَنَيْتُ أم أسْقطْتُّ. فالأمر سواء.
قالها وهو يضمر في نفسه ما يناقض ذلك كل المناقضة؛ فالهدم أسهل من البناء وأبسط.
- وشْكونو هذا؟ كيما العادة من جماعة اللّويز (ذهبٌ مكنوزٌ) إلي شراو المدينة الكل، وما خلاَّوْ كان (لم يتركوا سوى) الجامع الكبير والسَّيِّد الصحبي (مقام الصحابي بمدينة القيروان)؟
قالت ذلك ممتعضة. فردَّ عليها بهدوء حذر:
- محسوب. كان هوما؟ (الأمر يشمل غير هؤلاء).
وذكَّرَها بآلام ركبته، ثم تحسَّس موضع إصابته، فآلمته قليلًا. لكنَّه آثر ألَّا يبدي ما كتمه عن زوجته، لأنَّها لم تكن تعلم أنَّه كان يَدين لتاجر الخضر والبقالة بالشيء الكثير. وأنَّ عليه تسديد جزء من ديونه المتتالية ليتمتع بتزويد مؤجَّل الثّمن بتلك المواد الحيوية كلما احتاج ذلك.
ومرَّ يومه على شاكلته المعهودة. فقد آثر المكوث بالمنزل لترتاح ركبته قليلًا، فغدًا يومُها المنتظر. والمرجَّح أنَّ الإصابة ستزداد سوءًا.
"غدا يحُلُّها الْحلَّالُ...!".
قال ذلك في نفسه ليتسلَّى عن امتعاضه وآلامه وانكساراته. وعن مرارةٍ أخذت تُحسِّسُه بكآبة عجيبة لا عهد له بها. ولكن. ما باليد حيلة.
خياراته محدودة، مُحدَّدة؛ لكنها على أوضح ما يكون: "إن عمل غدًا فقد أمن الجوع، لكنه لن يأمن تضاعف إصابته. أمَّا غير ذلك، فلن يفاقم إصابته، ربَّما، لكنَّ ذلك سيجعله وعائلته تحت طائلة الجوع. كلِّيًّا".
فهل سيصبر عليه البقَّال مدة أخرى تتفاقم خلالها ديونه من جديد؟
لم يكن يريد الاستمرار في التفكير في ذلك الاحتمال الذي استبعده منذ البداية. فكان أن عزم على العمل وعلى تحمُّل ألم ركبته. وألم آخر نسيه.
لعلَّه في مكان ما، آخر من جسده.
لم يستطع تحديد موقع إصابته بالضَّبط، وهو أمرٌ على غايةٍ من الغرابة.
في الغد، انطلق منذ الفجر، إلى المقهى حيث زملاء المهنة والباحثون عن عامل أو عن "مُعَلِّمِ" بناء على حدِّ السّواء، كما يُسَمَّى بذلك أصحاب الخبرة في تلك المهنة، ممَّن تمتَّع بتكوين تمهيني في البناء والتَّشييد والتزويق... أو بخبرة مطوَّلة فيه تحت إشراف معلِّم آخر.
هي ذي أصوات الكؤوس تقرقع الآذان بلمساتها الشجية التي تتناهى إلى النهايات العصبية فتقترن بمذاق القهوة السوداء ومثيلتها المركَّزة والتبغ المهرَّب الكريه والتَّبغ المحلِّيِّ وكذا المستورد.
هما ذا رفيقاه يجلسان قبالة باب الدخول المعدني الرحب. بادرهما بتحية مرحِّبة ثمَّ دلف نحوهما بخفَّة آلمت ظهره وهو يجذب الكرسي إليه ويدفع بجسده دفعًا نحوه للجلوس في مقابل المكان الذي يقع بين موقع جلوس صديقيه.
كانا يلعبان لعبة الرَّهان، باستعمال مكعبين مرقَّمين. دعاه أحدهما للَّعب محلَّه، لأنه سينطلق في قضاء شأن عاجل. فاستجاب بكل سرور...
وردَّ بمرح: "ستتحمَّل معي الخسارة إن خسرت".
نظر إليه الآخر وهو يضحك: "ولمَ لا تكون الرابح يا رجل؟".
رد بدوره: "زهْري ونَعْرْفو" (أعرف سوء حظِّي).
هكذا كان يخسر. حيث وجب أن يفوز كل مرة.
وقبالة الجمع من الرُّفقاء اللَّاعبين، كان صانع المشروبات قابعًا، للاستراحة قليلًا من عناء الوقوف مراقبًا استواء المذاقات، يزيد شيئًا من السكر أو يسخِّن ما بدأت البرودة تمتزج به من المشاريب المقترحة، حيث كان يستغلُّ الفرصة للجلوس كلَّما سنحت له الفرصة لذلك.
(انتهى الجزء الأوَّل)
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.