قصة "ثقافة مجتمع".. قصة قصيرة

كان يومًا باردًا من أيام إبريل، والساعة تشير إلى الثامنة صباحًا.

كعادتي صباح كل يوم، جمعت بعض أشلاء نقود موجودة في البيت، وتسلقت نفسي ونزلت لأتسوق ما يتيسر لي من خُضَر وفواكه.

احتميت بجدار متهالك وأنا أعبر همي، إذ شعرت بوخز مفاجئ في قلبي حالما رأيت ابنتي تفتح الباب وتدخل علينا شاحبة اللون منطفئة الروح مكسورة الفؤاد.

تراكم القهر في جسدها النحيل لشدة ما اشتكت لنا مرارة الحياة وقسوتها مع زوج غير مبالٍ، لاهثًا دائمًا وراء ملذاته.

كثيرًا كانت تردد على مسامعنا شوقها للموت والخلاص.

بدأتُ أسابقُ خطواتي لشراء الخضر محاولة العودة بسرعة إليها لأحتضنها وأحتضن همها وألمها، علَّنا نتقاسم طعام الإفطار مع ما تيسّر من مقبلات الهموم، في محاولة لفهم إصرارها على إجراء تحليل طبي مستعجل ورفضها بطريقة قاطعة أن يرافقها أحد.

ترى أي نوع من أنواع التحاليل أجرتها؟!

أَمضي شاردة بخيالي، أُنصت لصوتٍ هامس بجانبي: "مسكينة هذه المرأة، ومصابها كبير جدًا، أكبرُ من حجم كل الآلام".

هذا أول ما سمعته أذني وأنا عائدة أدراجي، ترافقها عبارات تائهة مبهمة: "3 طلقات نارية- القتلى ثلاثة".

تعبَّأت روحي في الظلام من تلك الوجوه المفترسة، والنظرات المحدقة، نظراتٌ مشفقة وأخرى مستحقرة.

غُصتُ في دوامة تفكيري من سماع: "قتل ابنه وابنته وانتحر، لعله وجدهما في وضع غير لائق!".

اقتربتُ من البناء أكثر وسيارات الشرطة والإسعاف مكتظة في المكان، وعدد لا يمكن إحصاؤه من الأشخاص، منهم من أعرفه والغالب كانوا غرباء عن حيِّنا، حتى إنَّ وجوههم ليست من المنطقة.

لم تعد قدماي قادرتين على حملي بعد سماعي عبارة الحاج صادق وهو يحدق بي ساخرًا: "يا ما تحت السواهي دواهي".

بتتابع غير إرادي سقطتْ الأكياس من يدي، وجسدي الهزيل خذلته ساقاي الهلاميتان في أثناء صعود الدرج، زلق سؤال من داخلي: "منذ متى وبيتنا بهذا العلو والارتفاع؟!".

استقبلني ضابط الشرطة في بيتي ودون أي مقدمات صاح: "نريد إفادتك من أجل فتح تحقيق فوري بالحادثة، وهو يلوح بظرف تحليل بيده".

ظلام حالك أحاط بي، وسكون أطبق على شفتي..

أعاد الضابط عبارته..

نظرتُ إليه دون وعي مني وأنا أتعارك مع ظلي، وجسمي يتبلَّد وتسقيه قطرات العرق الهاربة من المشقة.

بصوتي المرتجف الهارب: أي إفادة يا سادة؟!

عن ماذا تتحدثون؟

ماذا يحدث في شقتي؟

وماذا تفعلون أنتم هنا؟

 كنت أحاول الوصول بكل أشلائي إلى الغرفة المغلقة، لكنَّ يد الشرطي حالت دون اقترابي.

لا يزالون يرفعون البصمات ويعيثون فوضى في كل مكان.

أهذا بيتي؟ كنت أتساءل والحيرة تقاسمني التعب والفضول.

- ابتعدي... هذا مكان جريمة لثلاثة قتلى.

- أي جريمة؟ ماذا يحصلُ؟

صوت ضابط من المكان الآخر يرتفع: "دعوها تلقِ نظرة، لنبدأ التحقيق معها، لا داعي لإضاعة الوقت".

وعلى رغم قصر اللحظة وأنا أقترب من الثلاثة، ومع أول نظرة، أغلقت عينيي الملونتين بالضياع، وحبست جراحي، غرقت في بحر التفكير المتلاطم بمآسيه.

أحاول عصر ذهني واستجماع حواسي لأصل إلى تفسير منطقي لقول الضابط: "المعلومات تقول إنَّ زوجك موظف حكومي، وسرق أموال الخزنة وفرَّ هاربًا، وعند وصوله إلى البيت وجد أبناءه بوضعية غير أخلاقية، فأقدم على قتلهما، ثم قتل نفسه".

- ما أقوالك؟

- أقوالي؟

وهل ما تراه عيناك الآن تصدق تلك الأقوال؟

أقوالي أوجهها لزوجي لهذا الأب الرحيم وليس لك.. ابتعد قليلًا

- آه منك، كم مرة أقسمت عليك ألَّا تستمع لطلب ابننا؟ وأن تكون أكثر وعيًا وصبرًا منه؟

أعرف حبك الشديد له، وعطفك وتألمك لألمه، ورغبتك في النزول عند طلبه لتخليصه مما هو فيه من ألم مرضه المزمن.

-أخبرني: هل وهبته الموت الرحيم والراحة الآن؟

أنا من تعرف حجم أَلمك لألم ابنتك المدللة وحياتها البائسة مع زوج اتفق والحياة على كسرها وإذلالها.

هاجمتك تلك النيات، وأيقنت ألَّا مَفَرّ من القدر إلا إليه، كررتها أمامي مرارًا: "لا أحتمل آلامهما".

من أين لك بالمسدس؟

كيف أخفيته عني؟

هل ارتحت الآن؟

هل نمتَ قرير العين وهدأتْ نفسك بإنهاء آلامكم الدنيوية؟

آااااه يا ابنتي

يا فلذة كبدي وقرة عيني

ما الذي أتى بكِ اليوم؟

هل رحلتِ جائعة؟ لقد رحلتِ تاركة قطرات دم في مخبر تنتظر.

وأنت يا وحيدي، ويا نور الحياة ونبضها، هل زال ألمك الآن؟

آاااه منكم أنهيتم مسرحية آلامكم، لأبدأ مسرحية عار ظالمة ألتحف فيها أبدًا.

صُوركم ستبقى عالقة في عينيَّ، ورائحة الموت ستنهش قلبي.

سأشتهي رحيلًا يشبه رحيلكم، فالقلب أصبح بئرًا جفَّ ماؤه، والضِّباع فتحت أفواهها، والحياة ماتت بداخلي.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يوليو 17, 2023, 9:33 م

ما أشد ما يلاقيه الكثير في الحياة .
ألف تحية 👍🏻

أضف ردا
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يوليو 18, 2023, 7:29 ص

زدت سعادة بمرورك الكريم
الف تحية لك

أضف ردا
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يوليو 18, 2023, 8:12 ص

قصة مؤثرة جدا طريقة سردك رائعة و كلماتك جميلة ...و طريقة نقلك للرسالة للقارىء مذهلة ...حقا انت روائية رائعة كل التقدير و الاحترام لك يا كاتبتنا ....انا متشوقة للمزيد مثل هذه القصة التي ورائها لغز كبير ....الف تحية لك من بلد المليون و نصف مليون شهيد❤ ❤❤

أضف ردا
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يوليو 18, 2023, 8:11 م

أحسنت بقراءة الرسالة باركك الله وزادك تألقاً
الحياة مليئة بقصصها الموجعة .
سعيدة جداً بحضورك

أضف ردا
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يوليو 19, 2023, 1:01 م

👍👍

أضف ردا
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يوليو 22, 2023, 1:49 م

كعاداتك رائعة

أضف ردا
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يوليو 30, 2023, 5:59 ص

تسعدني إطلالتك وكلماتك
طاقات ورود لك
دمتِ بتميز

أضف ردا
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

هل تحب القراءة؟ كن على اطلاع دائم بآخر الأخبار من خلال الانضمام مجاناً إلى نشرة جوَّك الإلكترونية

مقالات ذات صلة
ديسمبر 8, 2023, 10:57 ص - سندس إبراهيم أحمد
ديسمبر 8, 2023, 10:28 ص - سمر سليم سمعان
ديسمبر 7, 2023, 7:56 م - محمد عربي ابوشوشة
ديسمبر 6, 2023, 8:20 ص - جوَّك آداب
ديسمبر 6, 2023, 5:38 ص - محمد محمد صالح عجيلي
ديسمبر 5, 2023, 12:07 م - ايه احمد عبدالله
ديسمبر 5, 2023, 6:33 ص - محمد عربي ابوشوشة
ديسمبر 4, 2023, 11:08 ص - محمد عربي ابوشوشة
ديسمبر 4, 2023, 8:21 ص - عائشة محمد عبد الرحمن غريب
ديسمبر 3, 2023, 12:38 م - محمد محمد صالح عجيلي
ديسمبر 2, 2023, 8:31 ص - محمد محمد صالح عجيلي
نوفمبر 30, 2023, 1:12 م - جهاد عبدالرقيب علي
نوفمبر 30, 2023, 9:41 ص - أسماء خشبة
نوفمبر 30, 2023, 9:14 ص - حسن بوزناري
نوفمبر 30, 2023, 6:01 ص - جهاد عبدالرقيب علي
نوفمبر 28, 2023, 7:07 ص - ظافر أحمد أحمد
نوفمبر 28, 2023, 6:48 ص - ظافر أحمد أحمد
نوفمبر 28, 2023, 5:34 ص - محمد سمير سيد علي
نوفمبر 27, 2023, 10:49 ص - أسماء خشبة
نوفمبر 27, 2023, 9:50 ص - محمد عربي ابوشوشة
نوفمبر 26, 2023, 9:21 م - محمد رشيد ابو شقير
نوفمبر 26, 2023, 4:42 م - مصطفى عادل عبدالعظيم نوار
نوفمبر 24, 2023, 9:55 ص - زبيدة محمد علي شعب
نوفمبر 24, 2023, 9:03 ص - سفيان صابر الشاوش
نوفمبر 23, 2023, 5:14 م - عبدالخالق كلاليب
نوفمبر 23, 2023, 3:18 م - مصطفى محفوظ محمد رشوان
نوفمبر 23, 2023, 11:13 ص - سفيان صابر الشاوش
نوفمبر 23, 2023, 10:15 ص - سومر محمد زرقا
نوفمبر 23, 2023, 9:11 ص - حسن المكاوي
نوفمبر 22, 2023, 1:01 م - محمد محمد صالح عجيلي
نوفمبر 22, 2023, 9:13 ص - حسن المكاوي
نوفمبر 21, 2023, 5:32 م - رضوان عبدالله سعد الصغير
نوفمبر 21, 2023, 5:02 م - أحمد عبد المعبود البوهي
نوفمبر 21, 2023, 6:16 ص - هبه عبد الرحمن سعيد
نوفمبر 19, 2023, 12:12 م - التجاني حمد احمد محمد
نوفمبر 18, 2023, 11:20 ص - مصطفى محفوظ محمد رشوان
نوفمبر 18, 2023, 10:59 ص - جوَّك آداب
نوفمبر 16, 2023, 9:00 ص - زبيدة محمد علي شعب
نوفمبر 15, 2023, 8:43 ص - جوَّك آداب
نوفمبر 14, 2023, 4:49 م - هيثم عبدالكريم عبدالغني هيكل
نوفمبر 14, 2023, 3:45 م - أحمد محمد فودة
نوفمبر 14, 2023, 2:00 م - سالمة يوسفي
نوفمبر 14, 2023, 7:57 ص - سيرين غازي بدير
نوفمبر 14, 2023, 6:19 ص - غزلان نعناع
نوفمبر 13, 2023, 7:38 ص - غزلان نعناع
نوفمبر 13, 2023, 6:59 ص - رايا بهاء الدين البيك
نوفمبر 12, 2023, 8:39 ص - محمد محمد صالح عجيلي
نوفمبر 11, 2023, 2:17 م - منال خليل
نوفمبر 11, 2023, 7:49 ص - رايا بهاء الدين البيك
نوفمبر 10, 2023, 12:05 م - خوله كامل عبدالله الكردي
نوفمبر 10, 2023, 9:02 ص - هيثم عبدالكريم عبدالغني هيكل
نوفمبر 9, 2023, 9:49 ص - جوَّك آداب
نوفمبر 8, 2023, 12:36 م - جوَّك آداب
نوفمبر 8, 2023, 9:53 ص - جوَّك آداب
نوفمبر 7, 2023, 9:46 ص - هاجر فايز سعيد
نوفمبر 7, 2023, 9:35 ص - غزلان نعناع
نوفمبر 7, 2023, 9:19 ص - حنين عبد السلام حجازي
نوفمبر 7, 2023, 5:10 ص - محمد محمد صالح عجيلي
نوفمبر 6, 2023, 11:03 ص - بدر سالم
نوفمبر 5, 2023, 10:20 ص - خوله كامل عبدالله الكردي
نوفمبر 4, 2023, 8:32 م - حنين عبد السلام حجازي
نوفمبر 4, 2023, 3:28 م - ناصر مصطفى جميل
نوفمبر 4, 2023, 2:19 م - بدر سالم
نوفمبر 4, 2023, 10:57 ص - هاجر فايز سعيد
نوفمبر 3, 2023, 7:42 ص - رايا بهاء الدين البيك
نوفمبر 3, 2023, 5:45 ص - ياسر الجزائري
نوفمبر 2, 2023, 9:19 ص - احمد صالح احمد مقبل الصيادي
نوفمبر 2, 2023, 9:14 ص - إياد عبدالله علي احمد
نوفمبر 1, 2023, 3:12 م - احمد صالح احمد مقبل الصيادي
نوفمبر 1, 2023, 12:52 م - ماجد محمد رضوان
نوفمبر 1, 2023, 11:39 ص - احمد صالح احمد مقبل الصيادي
نوفمبر 1, 2023, 8:10 ص - رايا بهاء الدين البيك
أكتوبر 31, 2023, 7:16 م - فرح راجي
أكتوبر 31, 2023, 1:59 م - أسماء خشبة
أكتوبر 31, 2023, 1:37 م - احمد صالح احمد مقبل الصيادي
أكتوبر 31, 2023, 9:17 ص - احمد صالح احمد مقبل الصيادي
أكتوبر 30, 2023, 4:27 م - نجوى علي هني
نبذة عن الكاتب