استيقظت ذات صباح لأجد عشرات الرسائل النصية على أحد جروبات الكتابة الخاصة بنون النسوة وكل رسائل المشاركة تعلن تضامنها ومؤازرتها للآنسة كاف.
كانت الرسائل كثيرة وطويلة لحد يصعب معه تعقب أصل هذا التضامن ومعرفة أسبابه، ومن السخيف أن أسأل وقد اشتد الوطيس، فهذا سيضعني بلا ريب في مصاف الجهلاء، غير أن هذا التضامن القوي يوحي بما لا يدع مجالاً للشك أن خطبًا قويًّا قد ألم بالآنسة كاف، وأن ظلمًا أثيمًا قد وقع عليها، ولا بد من مساندتها والتخفيف عنها والوقوف إلى جانبها.
معرفتي بالآنسة كاف سطحية، بدأت منذ بضعة أشهر، ولم تصل إلى حد عميق أثني على ما تكتبه وأتابعه، كما أنني بتُ أعرف شكلها من صورها التي دائمًا ما ترسلها، بداية من صور حفل التخرُّج ثم صورها بفساتين السهرة في الأعراس التي تحضرها، حتى إنني ألفت صور الآنسة كاف وحاولت مرارًا تقليد لفة الحجاب خاصتها غير أنني لم أفلح قط، نهاية بصور حفل خطوبتها الذي كان من ثلاثة أشهر.
كل ما أذكره أن الجروب وقتها قد انشغل بتلك القصيدة التي كتبتها الآنسة كاف في هذا الخطيب، الذي عددت مآثره وصفاته الحسنة لدرجة قاربت بل وجاوزت ما قد قيل في مدح الملوك والسادة والرؤساء.
كانت القصيدة وما قيل بعدها يوحي بما لا يدع مجالاً للشك أن الآنسة كاف قد حظيت بهذا الفارس الشامخ، الصادح، سديد الرأي، موفق الخُطا، قوي العزيمة، المتأصل في العراقة مع مزيج من الحداثة اللائقة بعصرنا الحديث.
ومع أن صورة هذا الخاطب وهو يمسك بتلك اللافتة مع الآنسة كاف التي كُتِب عليها أن الخطوبة قد تمت؛ كي لا يتبادر للذهن أنه حفل آخر أو عقيقة لأحد الصغار، كانت الصورة لا تنبأ عن هذا فطريقة لباسه واختيار الألوان وقصة شعره المستفزة لا توحي بسوى التفاهة المطلقة والسطحية، غير أنني زجرت نفسي ووبختها على تلك الروح المتنمرة فمن أنا لأحكم على اختيار الآنسة كاف، وأعيب في عمق نظرها لمجرد صورة لا تسمن ولا تغني من جوع، ثم إن ابتسامة الآنسة كاف قد أوشكت أن تكون صادقة لحد بعيد.
طالما أن الآنسة كاف قد أعلنت أنه يتمتع بكل المزايا وأكثر، فلا بد من أنها محقة، ويجب أن ندع تلك الفراسة المتطفلة التي تطل عادة في مثل هذه المواقف، ثم إن طريقة كتابة الآنسة كاف قد قاربت أن تصل في جودة مفرداتها وصياغتها العذبة طريقة الأدباء الكبار كالعقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم ويوسف السباعي، أليس هذا دليلاً دامغًا على أن الآنسة كاف محقة وعلى صواب.
إذا تلك الإنسانة المرهفة الحس صاحبة النظرة الثاقبة ها قد وقع عليها ظلم بطريقة أو بأخرى، ولا بد لي وقد عرفتها عن طريق الصور والكلمات أن ألحق بالركب غير متوانية في المناصرة والمؤازرة فمن يدري ما تخبأه الأيام القادمة لي من مواجهات لا بد وأن أكسب ود الآنسة كاف، وأضمن أنها ستحفظ لي هذا الجميل، ثم إن شخصيتي منذ نعومة أظافري تأبى وترفض أن تتعرَّض أي فرد من نون النسوة لظلم وأقف مكتوفة الأيدي دون حراك.
لقد اعتدتُ أن أخوض تلك المعارك دون كلل أو ملل، خيل إلي مع تدفق الرسائل وتلك الدعوات لإعلان الحرب أن الآنسة كاف قد تم ببساطة قمع قلمها أو أن جائزة كانت تستحقها بجدارة قد ذهبت لجماعة الذكور، فهذا ما يستدعي حربًا طاحنة بل إن الاكتفاء بالرسائل لن يجدي، لا بد من شحذ الهمم وكتابة المقالات التي تندد وتعنف هذا التفكير الذكوري الغاشم، وتدعو للمساواة التي قد قتلت في مهدها.
وخير دليل هو هذا الظلم الذي قد لمسنا صداه مع الآنسة كاف، لا بد من سحق الأفكار المتحجرة البالية والمطالبة بحق الآنسة كاف.
أرسلت رسائل أعلن فيها انضمامي لتلك المؤازرة والمساندة وتعاطفي الشديد مع الآنسة كاف، بل واستعدادي للمشاركة في أي فاعليات ستقام، بل وطالبت بإطلاق اسم الصامدة الآنسة كاف على الجروب وإطلاق اسمها على شارع رئيسي في أي مكان بالعالم، بل وإنشاء مدرسة للفتيات يتم تدريس أشعار ومقالات الآنسة كاف فيها كمادة أساسية.
ما لم أكن أتوقعه هو رد فعل الآنسة كاف التي أعلنت للجميع أنني من الآن فصاعدًا من أقرب الناس إلى قلبها، وأنني وبكل تأكيد ضمن قائمة أعز الصديقات.
صدقًا لم أكن أستحق كل هذا إن واجبي هو أن أدافع عن الآنسة كاف أو أي أنثى تعاني في أي مكان، فما فائدة الأقلام النسائية إذا لم يكن همها الأساسي تشجيع ومؤازرة النساء ودعمهن في كل موقع ومجال.
ناهيك أن هذه هي الآنسة كاف التي جعلتني بكتاباتها عن الحب والعواطف والمشاعر أوقن أنني محض سلحفاة في وسط الصحراء، لقد تعلمت الكثير منها برسائلها عن الموضة والأزياء ومساحيق التجميل والجديد في ألوان طلاء الأظافر، كم كنت جاهلة قبل معرفتي بالآنسة كاف.
غير أني وبعض العضوات تفاجأن أن هذه الحرب التي دارت رحاها وأجهل طرف النزاع الذي سنسدد له السهام والطعنات هو ذاته خطيب الآنسة كاف، فلقد سلبته كما فهمت لاحقًا كل الأوسمة والنياشين والألقاب وخلعت عنه رداء الأبطال الذي قد ألبسته إياه في قصائدها العصماء.
خطيب الآنسة كاف الذي فسخ خطبته على حين غرة ليس لديه استعداد لتلبية مطالبها المادية التي تطمح وتصبو لها نفسها، وأنه من تلك الفئة التي لن تقدم سوى المتاح والمعقول وأقل القليل.
حقيقة وقعت في حيرة من أمري، فقد كان يجدر بالآنسة كاف أن تتريث في قبول الخطبة مسبقًا أو تتنازل عن بعض التطلعات التي لا تسمح بها إمكانات هذا الشاب، جل ما تيقنت منه عقب تلك المعركة التي لا ناقة لي بها ولا جمل أن أتبع حدثي الذي قلما يخطئ، وأن أفهم أطراف المعركة قبل الدخول في معتركها، وأن أتريث قبل أن أختار إلى أي طرف سأنحاز، وأن أضع أسلحة القتال جانبًا وأعود بلا مناقشة لصفوف المتفرجين، وأكتفي بإرسال رسائل التهنئة في المناسبات.
دمتم بكل ود وحب.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.