يقول أبو الخير: كنتُ طفلاً صغيرًا لم أتجاوز العاشرة من العمر، وصدف أن زارنا صديق لأبي في يوم شتوي غائم قبيل الظهر بقليل..
وبعد جلسة طويلة وأحاديث عدَّة هم الضيف بالرحيل إلا أن الغيث بدأ يتساقط وازداد شيئًا فشيئًا، فأقسم عليه أبي ألا يغادر في هذا الجو الماطر، ولينتظر حتى ينقشع الغيم وتهدأ السماء، وأصر والدي عليه فمكث الضيف.
ولما أن طالت المزنة والهطل، طلب أبي من والدتي كي تُعد بعض الطعام فقد حان موعد الغداء.
ذهبت أمي لشأنها ولا يزال والدي مع صديقه الضيف يتجاذبان أطراف الحديث.. ومن فضول الأطفال وحبهم للمطر خرجت نحو أرض الديار لأتمتع بمنظر تساقط حبات المطر ولألهو بها..
أرفع حينًا يداي نحو السماء فتنزل حبات المطر على كفيَّ الصغيرين فامسح بهما وجهي أو اشرب تلك القطرات المتجمعة في يديَّ متبركًا بها، وكما نسمع من الكبار أن ماء المطر بركة يقوي الجسم ويكثر الشعر ويبهي الوجه، إنه رحمة الله من السماء إلى عباده وكل مخلوقاته على الأرض..
وحين كنت أركض بقدميَّ الحافيتين أخوض في برك الماء المتجمعة في أرض الديار، مكثتُ وقتًا طويلاً وأنا العب في الخارج حتى هدأت السماء وبدأ المطر يتوقف واقشع الغيم جزئيًا شيئًا فشيئًا وتوقف المطر تمامًا.
ومن فرحتي وسعادتي دخلتُ البيت مبشرًا أهلي أن المطر توقف وقد هدأت السماء.
وكنت أحفظ مقولة يرددها الكبار ولا أعرف قصدها أو معناها بالضبط وما ترمي إليه من معانٍ خفية.
قلت مرددها على مسامع أبي وضيفه (تصحت وتمحت وما ظل للضيف حجة)، وقعت هذه الكلمات على مسامع أبي وضيفه كالصاعقة، وصرخ بي أبي أخرج يا ولد أخزاك الله!
خرجتُ مسرعًا وأنا لا أعرف لماذا قال لي أبي هذا وأنا كنت داخلاً لأبشره أن المطر توقف فما الذي جرى! ولماذا هتف بي أبي وبعصبية أن أخرج!
ذهبتُ إلى أمي وكانت للتو قد انتهت من إعداد الطعام، سألتها بلهفة: أمي لقد صرخ بي أبي وأخرجني من الغرفة وبعصبية بادية على وجهه.
قالت أمي ماذا فعلت من أمر أزعج والدك قل.. قلت لا شيء يا أماه حتى إنني كنتُ خارج الغرفة.
قالت: إذا لماذا طردك، لا بد أنك فعلت أمرًا ما، قل ماذا فعلت..
قلت: لا شيء البتة، كنتُ ألعب في الخارج تحت المطر، وفجأة توقف المطر، فدخلت نحو الغرفة مبشرًا وناقلاً خبر توقف المطر، وقلت: (تصحت وتمحت وما ضل للضيف حجة) أليس هذا ما أسمعه منكم دائمًا، فلماذا غضب أبي مني وأخرجني من الغرفة.
مسحت أمي يدها على رأسي وهي ضاحكة، وقالت يا بني هذه العبارة لا تقال وعندك ضيف في البيت، هذه بمثابة طرد للضيف كأنما تقول له هيا انصرف فقد توقف العذر الذي يجعلك تجلس عندنا.
قلت: يا أماه ما كنت أقصد هذا، بل كنتُ داخلاً أبشر أبي بأن المطر قد توقف.
قالت: أجل، أنت فعلت هذا بحسن نية، لكنه يفهم من كلامك الضيف أنه ما عاد مرغوب ببقائه عندنا.. يا ولدي كثير مما نقول يعني معاني قد لا ننتبه إليها، فكن فطنًا إذا أردت أن تتكلم.
*تصحت وتمحت بتشديد الحاء في كلا الكلمتين تعني أصبحت الدنيا صحوًا وانقشع الغيم عن السماء.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.