بَلَغَ الأربعين ولم يتزوَّج. ومات أبواهُ وهو في الجامعة، ولم يُبقِ على صديقٍ قطُّ. كان متعلِّقًا بالكتب كالطفل بحَلَمةِ أمِّه، وبخاصةٍ ديوان اللزوميَّات والمتنبي وأسفار العقَّاد وكتب الفلسفة والنقد.
ظلَّت تنصحه عمَّته بالزواج حتى ماتت وهي غاضبة عليه. كانت نظرته إلى الحياة عميقةً، عقليَّة، حكيمة، يظنها الجاهل نظرة باردة. هكذا كان يعتقد.
كان يعمل في التدريس، وكان فيه بُخلٌ عجيب يحاول أن يكتمه جاهدًا، وكان متعاليًا مُحتَرَمًا، وربما كان منبوذًا ولكنه لا يشعر.
بلا امرأةٍ ولا صديقٍ عاشَ. المرأة تُتلف العقل وتهدّ العافية وتأكل المال، والصداقةُ ستُلزمه بواجباتٍ هو في غنًى عنها، أوليس "الكتابُ خيرَ صديق"؟ وأرجح الظنّ أنه كان ينتظر صديقًا يكون كفؤًا له في العِلم، وكان هذا حلمًا بعيد المنال. أما المرأة فكان يُعزّي نفسه عنها ويسأل: أوَلَمْ يَعش أبو العلاء والمتنبي والعقاد بغير امرأةٍ؟ هل يُحطِّم الإنسانُ نفسه وآماله من أجلِ شهوةٍ لا تنتج إلا مزيدًا من الكدح؟ إنه قويّ، وسوف يَبقى قويًّا مدى الحياةِ.
كان يصف نفسه بأنه إنسانٌ "علمُه أكبرُ مِن عقله"، وكان يُخيَّل إليه أنه أعلَمُ أهل الأرض لطول مصاحبته لكتب أهل البراعة والنقد والفصاحة.
كان لا يخوض في حديث السياسة ولا في حديث الجماع -إذا جالسَهُ ماجنٌ داعر- ولا في حديث كرة القدم. وهو بهذا يحفظ جسده وعقله. وكان يكره المقاهي ويمرّ عليها سريعًا، كأنَّ رُوَّادَها رؤوس الشياطين، وما الدخان إلا سمّ، يُهلِك به اليائسُ نفسه. وما صوت حجر النرد وتماثيل الشِّطرنج إلا وسوسةٌ صاخبة تُبرز حيَّاتٍ وأفاعي تنهش وقته، والعاقل مَن لا يُضيع لحظةً من عمره، ولو في التثاؤب.
كانت المرأة تتجلَّى أمامه، فكان ينظر إليها كما ينظر الكهل إلى صِبية يلعبون بالكرة، وكانت قراءاته تزيده بنفس الإنسان علمًا، فلذلك وضع تصوُّرًا معيَّنًا لعقل المرأة ظنَّ أنه حلُّ اللغز الذي حار فيه الحكماء.
وكلما كانت المرأة أصغر سنًّا كانت أحلى وأبدع وأشدَّ جذبًا. ولقد هَمَّ كثيرًا، ولكنَّ عقله الجبَّار كان يُنَهنِهُه ويشكمه. العقل نعمة عظيمة، ولولاه لكان هباءً منثورًا.
كان يرى أن الله وضع في الرجل شهوةً، وأن قضاء الشهوة لا يتمّ إلا من وجهين: الزنا أو الزواج. فأمّا الزنا فهو على قبحه مُكلِّف، وهو بخيلٌ. وأمّا الزواج فتكاليفه أكثر، بالإضافة إلى تصوُّره الشاذ لعقل المرأة وطبيعتها.
ربما كان يريد الحريَّة والسموق، لكنَّه كان يعيش في سجنٍ حقيقيّ، ولكنَّ الكتبَ كانت عزاءً له، وقد قرأ ذات مرة أن الدنيا سجن المؤمن، فالحمد على أنه دخل الزنزانة واستقرَّ في غياهبها طواعيةً.
قرأ كثيرًا حتى صار يميِّز تمييزًا دقيقًا بين العلمِ والزَّيف. ولكنَّ الكتبَ ليست كلَّ شيءٍ. ها هو ذا يريد أن ينشر كتابًا في النقد وديوانًا يُعبِّر فيه بلفظٍ رائع عن شعوره وفِكَرِه. يحتاج إلى دار نشرٍ وحملة دعاية، وسعى بمخطوطةٍ ضخمةٍ إلى رجلٍ ناقدٍ، وجرى التعارف.
وفي اللقاء الثاني قال له الناقد بابتسامة دبلوماسيَّة: شعرُك قديم، نقدك قديم. نحن لا نريد الآمديَّ ولا المتنبي أن يفيقا من قبريهما ليكتبا لنا.
صَبَرَ الكهلُ نفسَه، وفي باطنه الثورة تغلي. هزَّ رأسه في تفهُّم، وكان مخُّه قد علَّق لافتةً مكتوبًا عليها "دارِهِمْ ما دُمتَ في دارِهِم".
وعكف سنةً كاملةً عمل فيها ديوانًا وكتابًا في النقد الحديث، وما فعل ذلك وهو راضٍ عنه، ولكنه أراد أن يضع قدمًا في ساحة النشر، ثم ليَكُن بعد ذلك الشعر الحقيقيّ المُبين، والنقد البلاغيّ الواضح. ويكون بهذا قد سخر من الناقد الحداثيّ كما سخر منه.
قدَّم الكهل للناقد المخطوطة فهشَّ الأخير وقال: أراك تغيَّرتَ! قال الكهل: الإنسان لا يتغيَّر، ولكنه كلامُنا.
قال الناقد: وهل تغيُّر الكلام ينافي تغيُّر الإنسان؟ على العموم سأفحص ما كتبتَ وسنلتقي.
ولمَّا كان اللقاء الثاني قال الناقد للكهل: هذا نقد وشعر قديمان أيضًا.
قطَّب الكهل فاندفع الناقد قائلًا: إن هذا النقد حقًّا حديث، ولكنه ليس بجديدٍ، لقد قتله الباحثون في الجامعات درسًا. يا للخسارة! أفنيتَ وقتًا طويلًا في كلامٍ قاله غيرُك.
وسكت الناقد قليلًا ثم قال: أستطيع أن أنشر كتابَيك، ولكنني من خلال معرفتي بك أظنُّ أنك تريد أن تُحدِث دويًّا، والنقد البنيويّ والتأويليّ والسيموطيقيّ والثقافيّ صاروا مثل النقد الاجتماعيّ والنفسيّ والبلاغيّ، صارت هذه النقود قديمة مستهلكة، والباحثون يلهثون خلف الطريف الغربيّ، ويُفضَّل أن تتقن الإنجليزيّة والفرنسية حتى تأتي بجديد.
أعلن النقد موت المؤلف، وأعلن الكهل بعد هذا اللقاء موت النقد. كل جديدٍ عندنا قديمٌ عند غيرِنا.
وقال في نفسه: نتغذَّى على فتات سوانا، ونضع العربة أمام الحصان ونضربه، ونحاول حلب الثور بالعنف، ما أقبح هذا الزمان! ولقد ضاعفَ غضبَه ما لاقاه من صعوبةٍ في لغة كتب الحداثيين، حتى أيقن أن في الناس مَن يكتب وهو لا يفهم ما يكتبه، وما كان ذلك يدور في خَلَدِه. فسبحان الهادي والمُضلّ !
وذات يوم كان جالسًا في قاعةٍ للمحاضرات بالجامعة، وقد اختارها ليخلو فيها بالكتاب الذي معه، فإذا بخمس فتياتٍ يدخلن. البناطيل الضاغطة، والشعر المنسدل، والصدور العامرة النافرة، والشفاه القرمزيّة القائمة على بشرة بيضاء تكاد تُضيء في الظلام.
وشغله دخولهنَّ شغلًا عظيمًا، فتأمَّلهنَّ وهنَّ يتحدثن ويقفزن مرحًا ويضحكنَ على راحتهنَّ، كأنه لا شيءَ. أين الحياء؟ وما الذي لفته إلى هؤلاء؟ ما أقبح الغريزة! وتمنَّى لحظة أن تأتيه واحدة منهنَّ وتسأل عن حاله أو سيرة حياته، وسرح خيالُه فتخيَّل ذلك، وظلَّ يخاطب طيف الخيال الذي جلس إليه. لا شك في جنونه. لكن كيف العزاء؟
كان يرى أن "النظرة" هي سر الشقاء، فهي علة الاستحسان، والاستحسان علة الهياج الغريزيّ، والهياج الغريزيّ علامة من علامات الهلاك.
وبدلًا من النظرة الجائعة الحيوانيَّة كانت نظرته تأمُّليَّة فاحصة تبحث عن القبح في الجمال، والبحث عن القبح سيؤدي حتمًا إلى نتيجةٍ مُرضيةٍ؛ لأن الكمال لله وحده. وما مِن امرأةٍ أعجَبَتْه إلا انتقدها حتى يحول انتقاده بين بصره والغشاوة، ويفصل بين عقله والشبق المخيف.
كم مرة أحبَّ؟ إنه يذكر وجوه كثيراتٍ، عشرات الوجوه الجميلة، وما لا يذكره أعظم، وهذه الوجوه كلها يَعدُّها هو شاهدًا ودليلًا على أن حسن النساء حيلة من حيل الطبيعة، يسلبن الألبابَ بها ليستمرَّ النسل، وهكذا كان الأمر من عهد آدم. وعلى العاقل ألا يقع في الشرك، أو بتعبيرٍ آخر: ألا يقع إلا حين يتهيَّأ.
الزواج كان همًّا، والعمر الذي يضيع كان همًّا، والكتب التي قرأها وحفظها والتي لم تعد ذات فائدة في نظر أهل زمانه همّ آخر. كان يريد أن يتزوَّج، ولكنَّه يأبى أن يصير مَدينًا وهو لا يعمل عملًا ثابتًا ولمَّا يُحقِّق أمله المنشود. الكتابة أولًا ثم المال ثم الزواج.
بكى مرتين، وما كان ذلك من طباعه، مرة وهو يقرأ "خان الخليليّ" ، ومرة وهو يقرأ "حضرة المحترم"، وكأنَّ نجيب محفوظ لم يكن يكتب إلا إليه. لكنه بعد مدةٍ ينسى، وآفة كل امرئ نسيانه.
تئنُّ ولا تلقى صديقًا مُساعِدًا •• وتشكو شقاءً غيرَ مُرتَحِلٍ سُدَى
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.