بنى متعهد سكنًا مؤلفًا من طوابق عدَّة وباع كل الشقق فيها.
السكان الجدد ينتمون لمختلف شرائح المجتمع، فمنهم الأستاذ والآنسة والمهندس والبقال والممرض والتاجر والمهني.
تزامن سكنهم جميعًا مع بعضهم، وكان الهدوء هو السائد في أول ستة شهور، إذ أجهدوا أنفسهم في الظهور بمظهر الرُّقي والأناقة والترتيب وكأنهم في بلد أوربي!
ما لبثوا طويلاً حتى بانت عراهم وسوآتهم الواحد تلو الآخر.
أول صوت صدر عاليًا من ربة المنزل في الدور الثاني، التي صرخت على جارتها في الدور الثالث الذي يعلوها تمامًا، حينما كانت جارتها تنظف السجادة على دربزون الشرفة مستخدمة وردة تنظيف السجاد بطريقة الضرب، ولم تتوقف تلك الجارة عن التنظيف حتى انتهت منها غير مهتمة أين يسقط الغبار وعلى من يسقط وغير مبالية بصراخ جارتها.
الحمد لله انتهت المشكلة من دون اشتباك لكن الاحتقان بقي موجودًا بينهما.
بعد أيام وقف بائع متجول تحت العمارة وقد سقط عليه ماء مزراب شرفة الدور الرابع، الذي طوله مترين (صممه زوجها بهذا الطول لكي يبعد المياه عن جيرانه، لكن لا مشكلة لو سقطت المياه فوق المارة) وصرخ وشتم قائلاً:
-يا قليلي الذوق انظروا أين يذهب وسخكم!
فأطلت سيدة الدور الرابع متجهمة الوجه: هذه صفاتك وماذا أعمل لك؟ سأنظف بيتي إن رضيت أم سخطت، أتذهب من هنا أم أستدعي لك الشرطة؟
ومن علامات انسجام السكان مع بعضهم حدوث مشادة كلامية وتبادل الشتائم تطورت إلى الضرب بالأيدي ونتف الشعر بين سيدتين، الأولى هي ذاتها التي كانت تشطف شرفتها وترمي بمياه الشطف على رؤوس المارة، وبين السيدة التي تقطن فوقها في الدور السادس التي كانت مصرة على تنظيف بلور النوافذ بالخرطوم وتسقط مياه التنظيف على كل جيرانها.
يدخلن الجارات وفككنهن عن بعضهن بعد ما نالت كل واحدة من الأخرى بطريقة ما، ودخل الجميع إلى منازلهم وبقي في الممر خصل من الشعر المنتوف، ولا ندري لمن هذا الشعر أللأولى أم للثانية أم للجارات فاعلات الخير!
الدورين الأول والسابع لم يسمع لهما صوت بين الجيران، لكن صوت الموسيقا العالية والصاخبة التي يصدرها الابن المراهق في الدور السابع نهاية كل يوم، تعوِّض عن أصوات سكان البناية مجتمعين.
ولن تنعم البناية بالهدوء قبل أن يبلغ الفتى رشده، لست متفائلاً فوالديه لم يبلغا رشدهما بعد!
سكان الدور الأول مسالمون وهادئون وطيبون، ويكاد لا يسمع لهم صوت أبدًا، لكن روائح أحذيتهم تفوق هدوءهم كله.
فمن خلال متابعتهم للمسلسلات التركية اقتبسوا منها عادة قلع الأحذية على الباب، وهذه عادة جميلة وصحية إن استخدمت بشكل صحيح.
في الشرق عمومًا، تقلع الأحذية وتوضع في خزانة خاصة ضمن المنزل بشكل مرتب، لكن سكان الدور الأول مارسوا هذه العادة وقلعوا أحذيتهم وتركوها خارج المنزل أمام الباب لتؤذي المنظر العام للبناية وتفوح روائحها الكريهة.. فهل يشعرون بجيرانهم؟
لم يبقَ من نتكلم عنه إلا قاطن الدور الثاني الذي كان إنسانًا بسيطًا في ثقافته وغير متعاونٍ مع سكان البناية لجهة دفع المال اللازم لخدمات البناية مثل شطف الدرج أو إصلاح المصعد أو إصلاح مجاري الصرف الصحي وكثير من المرات لم يدفع ما عليه.
عاش سكان البناية في نفور تام من بعضهم البعض، وكأنهم أقطاب مغناطيسية متنافرة ومن بيئات وثقافات مختلفة، رغم أن العوامل المشتركة بينهم أكثر من أن تحصى أولها الدين الواحد وليس آخرها اللغة الواحدة.
هل التحضُّر والتمدُّن بهذه الصعوبة؟ هل التمدُّن بحاحة إلى دورات تعليمية؟ هل صبغيات الحياة البدوية كالعيش في الخيم نتوارثه في الجينات دون أن نشعر؟
ما الذي ينقصنا لنماثل المجتمعات الأخرى في التعايش والاجتماع والأنسنة واحترام الآخر؟ هل ينقصنا علم؟ أم ينقصنا فهم؟ أم أننا نفتقر للذوق العام أم أن هناك خللا ما بالتربية؟ وهل هناك أمل بالتمدن والرقي؟
فعلا إنها بناية عجيبة!
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.