سحرها بنفس سحرها، لِمَ تتبدى على وجهها علامات البلاهة والسذاجة حين يغدو حميد موجودًا في دارهم ساهرًا مع أخيها؟
يتسامرون، تطيل النظر إليه ويتعطل فكرها ولسانها، وذات مرة طلب من أخيها أن يزوجها له.
رحب حسان الأخ الأكبر، لم لا، حميد رجل وجيد المظهر ويحترمه أهل البلدة كلهم، متعلم ومرموق يعمل معلمًا في مدرسة البنات الثانوية.
هو ليس من هنا، جاء من مكان ما بالعاصمة، يحمل رائحة زكية ويرتدي ملابس عصرية أنيقة وذو طول فارع، لم يهتم كثيرًا أن يكون فتى أحلام البنات.
هو أعجب بمهدية أخت حسان زميله في المدرسة، وصار هو وحسان صديقين وجمع التقارب بينه ومهدي شقيقها وشقيق حسان الأوسط ومهدية هي الصغرى.
جميلة فاتنة، ساذجة، واضحة، وقعت في غرام حميد دون تردد.. هو الفتى الوحيد الذي دخل أحلامها فتملكها.. في سرعة تزوجا، وانتقلت العروس إلى بيت زوجها.
سمعت البلدة كلها بالزواج الميمون، والكل هنأ وبارك، وانتهى الفرح وانفضت الزينة واختلى كل منهما بالآخر.
ظلت تنظر إليه ما فاق 30 دقيقة وهو متسمر في مقعده يرمقها بهدوء.
لم تصدر أي كلمة من أي منهما طوال نصف الساعة، هدوء مريب، ولم يعترض أي منهما، ولم يتبرم.
مهدية اكتفت بالنظر إليه، وحميد اكتفى بتأمل تلك المخلوقة البديعة.
لا يعرف عن خلفية حميد أكثر من أنه من العاصمة، خريج جامعة، جميل الطلة والطبع، بهي الوجه، مشرق الابتسامة.
وكان هذا كافٍ للزواج في بلدة مثل تلك التي يمر القطار عليها مرتين في اليوم وينساها بعد ذلك.
انقضت ليلة العرس، وفي اليوم التالي ظهرًا ذهب أهل العروس للتهنئة ومراجعة ما حدث من فتح مبارك لبيت جديد.
أكثر من ساعة ولم يفتح الباب، ازداد الأهل قلقًا، خشي حسان أن يكون ألمَّ بهما مكروه، حطم الباب تحت وازع القلق الشديد.
عاد إلى الدقائق المنصرمة، لم يلحظ أن باب الشقة صار قديمًا مغبرًّا، وأن مدخل البيت لم يكن نظيفًا، لمَ لمْ يلاحظ أحد كل هذا؟
لحظات ثقيلة باردة لزجة تمر على الجميع ينظرون إلى بعضهم، نظرات خاوية متثاقلة، البيت خاوٍ على عروشه.
لا يوجد أثر في هذه الشقة يوحي بأن سكنها أحد منذ سنوات طويلة..
تراب في كل مكان، لا يوجد سوى مقعد خشبي متآكل فقط في منتصف الصالة..
حبل عتيق يتدلى من السقف كهيئة المشنقة.
يفرك حسان عينيه وكل من معه، لقد زففنا مهدية وحميد إلى هذه الشقة التي سكنها حميد منذ عام وأكثر.
منذ ساعات وليست أيامًا كانت مفروشة بالكامل بفرش العروس الجديد الأنيق.
الآن أين العروسان؟
ليست هذه الشقة نفسها، هذه خرابة على أفضل تقدير، رائحة العطن والتراب تفوح منها.
كالمجاذيب، يتلفتون ويتحركون بهيستيريا، في كل أنحاء البيت وأعلاه وأسفله.
يركض الأهل والأقارب في كل ركن وشارع جانبي، لا يعقل، هنا منذ ساعات كان حميد صديقنا معلم الثانوية بنات زوج أختنا مهدية، أوصلناهما وتركناهما.
عدنا ولا أثر لكونهما أصلا كانا موجودين، يعقل أن يجن شخص أو ثلاثة أو خمسة، لكن أن يجن 17 شخصا في اللحظة نفسها، غير شهود الزفاف والجيران؟
ساعات من الصدمة والدهشة ألجمت الألسنة، لا أحد يملك تفسيرًا أو إجابة أو ما يمكن أن يشرح هذا الموقف.
عروسان في منزل زوجية بعد زفاف وحفلة شهدها ما يربو على 300 شخص.
مأذون عقد قرانًا، عريس بكامل هيئته وعقله ورجولته، عروس بكامل بهائها وجمالها، بيت مكتمل أنيق.
لا شيء من كل هذا هنا!
خرابة عطنة قذرة.. أهل وأقارب وجيران مذهولون.. صمت إجباري على كل الشفاه.
حالة جنون مكتومة، هيستيريا اللامعقول.
حسان يتلفت ثم يعود ويبتسم ثم تجحظ عيناه ذهولًا.. مهدي صامت كأنه يعلم ما يحدث، لكن لا يريد التحدث، أو أنه غير واعٍ لما يراه.
الأم مكلومة تلتاع في حسرة.. أصدقاء وأقارب يضربون كفًا بكف، ولا تعليق.
الشرطة تعثرت إذ إن الناس تحكي عن فرح وعروسين ومنزل، والآن لا شيء منها موجود.
لا تستطيع الشرطة أن تنكر صدق المئات من الشهود والأقارب، ولا يمكن تصديق الرواية أيضًا.
قصة حيرت كل من يتابعها.
إلا شخصًا واحدًا، هو من جاء متأخرًا..
سليمان.. خال حسان ومهدي ومهدية الأكبر.
جاء يتكئ على عصاه، الشيب استولى على رأسه، النظرة الصامتة العميقة صارت أكثر صرامة.
واقترب سليمان من أم مهدية، وهمس في أذنها وهو يحتضنها، ويخفي فمه وهو يهمس لها: لقد جاء الموعد، أنت نسيت أن هذا سيحدث، لكنه حدث، صاحب الأمانة طالب بها وحصل عليها.
تنهار.. كيف نسيت كل هذا؟
تسقط منهارة لتدخل في غيبوبة لا يعلم سببها إلا الله.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.