قصة "انظر داخلك".. قصة قصيرة

دق باب منزله ففتحت له الزوجة وهي معاتبة له على تأخره في الرجوع، فقد خرجت منذ ساعة وبقيت على الشاطئ لعلها تلمح مركبه لكن دون جدوى لتعود أدراجها للبيت.

صديقنا حرفته الصيد أو بالأحرى مصدر رزقه هو ما يجود به البحر من خيرات، حاله كحال كثير من الصيادين الذين نجدهم يقطنون بالقرب من البحر، فنراهم يقضون معظم وقتهم به بل أكثر مما يقضونه في بيوتهم، وعليه فهم يحفظون جيدًا معالم البحر هدوءه وصخبه.

أما إجابة صديقنا لتساؤلات الزوجة فهي أنه ورفاقه قد قرروا أن كل واحد منهم سيخرج وحده للبحر دون مجموعات، ليصبح كل صياد يعتمد على نفسه، وهذا ما أزعجه.

أما الزوجة فقد رحبت بالفكرة، وقالت إنها فرصة لكي يختبر قدراته فهو لم يخرج وحده إطلاقًا، وربما حان الوقت لنرى حنة يديه مثلما يقال في المثل الشعبي، لكنه سرعان ما تذكر أن شبكته عتيقة ولا بد من ترقيعها، فأحضر الإبرة والخيط وطرحها أرضًا وبدأ بخياطتها.

في الغد نهض باكرًا وحمل شبكته واتجه لمركبه وانطلق، وبعد مدة من الإبحار رسى بقاربه ورمى الشبكة وبقي ينتظر، وما هي إلا ساعة من الزمن ويُخْرِجُ صديقنا شبكته ليجدها خاوية إلا من بعض العوالق والطحالب البحرية فاستاء وبدأ يندب حظه.

بعد رحلته البحرية القصيرة تلك عاد أدراجه إلى الشاطئ ورسى بقاربه ونزل يجر أذيال الخيبة حاملًا شبكته الخاوية، والتي رمى بها في فناء المنزل ودخل البيت، ليجد الزوجة تحضِّر العشاء فتسأله عن الغنيمة ليُجيبها بالنفي وهو متكدر.

فترد عليه مرة أخرى بأن يصبر قليلًا فهذا هو حال البحر والصيد يومًا وفير وآخر قليل الوفرة، والأمر يحتاج إلى كثير من التأني والعزيمة.

استلقى صديقنا على فراشه وسرعان ما غفا واستغرق في النوم، أما الزوجة فلم تستوعب ما حَدَّثَهَا به لا سيما أنها رأت بعض أصدقائه وهم يحملون خيرات كثيرة جلبوها من البحر، لكنها آثرت أن لا تتحدث عن ذلك فخرجت للفناء واتجهت نحو شبكة الصيد وتفحَّصتها فوجدتها وقد حُلَّتْ جميع عقدها وتمزقت؛ لذلك لم يكن الصيد وفيرًا، فأدركت أن السبب هو الشبكة الممزقة فأعادتها لمكانها ودخلت البيت.

في الصباح وعندما نهض صديقنا قدمت له فطوره وبادرته بالسؤال عن الشبكة وعقدها الممزقة، فأجابها بأنه لطالما أخاطها لكنها سرعان ما تعود للتمزق، حينها تغيرت نبرة صوتها وبادرته بالسؤال:

-كم من الوقت وأنت تستعمل هذه الشبكة؟

-منذ زمن بعيد!

-أما حان الوقت أن تستبدلها وتقتني واحدة جديدة؟

-وهل لدينا الإمكانيات اللازمة لذلك؟

-طبعًا لدينا، فقط توكل على اللَّه.

زوجة صديقنا تملك من الحكمة والصبر وهذا ما جعلها واثقة بأن حالهم سيتغير إلى الأحسن.

لكن بعيدًا عمَّا سيجنيه صديقنا من الصيد حين يقتني شبكة جديدة، دعونا نتعرف عليه من الداخل فهو لم نره يصطاد لوحده أبدًا، لقد كان دائمًا يَنْضمُّ لمجموعة صيد محترفة ولها باع طويل في الصيد لكنه لم يفكر ولو ليوم واحد أن يخرج لوحده إلى البحر.

في الواقع قصتنا تحمل كثيرًا من العبر وأنا اخترت منها عبرة واحدة، والقارئ قد يكون لديه أيضًا من العبر التي وقف عليها وهو يقرأ القصة وهذا أكيد، فلكل منا وجهة نظر مختلفة أو قد نتفق على رأي ما، فالأمر يزداد متعة ورحمة حين يوجد اختلاف.

إن عبرتنا هي أن المرء حين يكون داخل مجموعة فإنه لن يكتشف ذاته؛ لأن الضمير الجمعي حينها هو من سَيُمْلِي عليه أفكاره، فنراه يذوب وينصهر داخل تلك المجموعة ولا يكاد يُرى، لأنه حتمًا مختبئ وراءها ولا تُعرف له هوية ولا إمكانيات.

لذلك حين رحَّبت زوجة صديقنا بالفكرة كان ذلك عين العقل، فهو حين عزم على الصيد في بداية الأمر لم يتمكن من ذلك؛ لأن الشبكة ممزقة وهو رمز الخواء الذي يعيشه صديقنا.

فهو لا يعرف حتى نفسه وماذا يريد من الحياة ولا حتى إمكانياته ومشروعاته المستقبلية، لذلك بقي يتخبط على غير هدى ولا يدري غايته ولا وجهته، فرأينا ذلك الفراغ الذي لا يسده إلا أن يتعلم كيف يخرج للبحر لوحده.

صديقنا لم يكن أبدًا معتنقًا لفكرة نابعة من صميم روحه، بل كان يتحدث على لسان المجموعة، وهذا ما جعله بدون مذهب ولا رأي فاختفى وسطها، فلم يظهر الخلل حين كان منصهرًا داخلها.

لكن حين انفصل عنها وجد شبكته ممزقة وهو رمز لعدم تبنيه لأي فكرة من وحيه، فكان لا بد وأن يولي لروحه الاهتمام ويغذيها بالعلم والمعرفة، ويقتني شبكة جديدة لتأتيه بما يجود به البحر.

وبمساعدة الزوجة خرج لوحده إلى الصيد ليتعرف على إمكانياته وقدراته وإلى أي مدى وصل، فبدأ بتقييم ذاته لينظر داخلها ويتعرف عليها عن قرب، وطبعًا لا يمكن أن يتعرف على نفسه بدون أن يتعرف على خالقه والعكس صحيح، فبدأ بالبحث عن الحقيقة عن طريق القرب من اللَّه.

حينها بدأت الإجابات تتهاطل عليه. فقد اكتشف أنه كان بعيدًا جدًّا عن نفسه لكن ما إن ابتعد عن الشلة أصبح قويًّا وشبكته تأتيه بالخيرات، وبمجرد أن استحكم عاد قويًّا وجسورًا، فلم يعد يخشى على رزقه؛ لأنه أصبح لديه منهجه وطريقته التي تأتيه بالخير.

لقد اختار صديقنا الخلوة الاختيارية، فبدأت اللآلئ والدرر تأتيه من كل جانب.

وما تلك الشبكة إلا حال المرء وحياته. فحين يكون متيقظًا لأي ثغرة من الممكن أن تقوده إلى الهاوية يُسْرِعْ لمعالجتها ويخيط جراحه ولا يعتمد على أحد؛ لأنه وحده من يعرف نفسه ويدرك مداخلها.

أما الزوجة فهي رمز الاستفاقة أو الصحوة التي تداهم المرء، وحين يأذن لها الله بذلك، وكيف لا وهي جند من جنود الله يسخرها لعبده ليُدرك رسائل الكون التي تبدأ بالهطول عليه، فيرى نفسه من منظور آخر ومن زاوية أخرى فيتعرف على نقاط ضعفه وقوته ويبدأ باستدراك ما فاته

صديقنا تحرَّر من المجموعة وأفكارها الدخيلة التي لا تخدمه على الإطلاق، فنظر داخله فوجد قوة روحية لا تضاهيها أي قوة.

«انظر داخلك، وأزل بيد طهور شوائب وعلائق ضارة، واروِ بماء الحماسة واليقين بذور الخير والجمال والتقدم».

مصطفى صادق الرافعي

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة